بين الإيديولوجية والسلطة الإلهية في إدارة شؤون البلاد على خلفية الربيع العربي (مازن عباس)
مازن عباس
تواجه مختلف قوى المعارضة المصرية اتهامات من جماعات الإسلام السياسي بأن تعصبها الإيديولوجي وتمسكها بمصالحها الحزبية هو السبب المباشر في إصرارها على تصعيد الصدام ضد حكم الإسلاميين، ما يؤدي إلى أزمات وكوارث تهدد بانهيار الدولة، وتصفية إنجازات ثورات الربيع العربي.
لكن الحقيقة التي نراها في الواقع، أن الأحزاب العربية اليسارية والقومية التي قامت على إيديولوجيات ونظريات فكرية منذ منتصف القرن الماضي، شهدت حالة انهيار سياسي مدوي نهاية ثمانينيات القرن العشرين، أدى لتشتتها وتشظيها بشكل درامي. وكما أكد العديد من الكتاب والباحثين تحولت الأنظمة القومية التي ظهرت منتصف القرن الماضي إلى "أنظمة حكم ديكتاتورية – عائلية، وتحوّلت الإيديولوجيات التي حملتها للسلطة إلى "يوتوبيا" مفصولة عن الواقع تماماً، تتغنى بشعارات براقة ومخادعة، وفقدان المتأدلجين لمصالح حقيقية تعبر عن مصالح مجتمعاتهم، ليس في إطار الإيديولوجيات القومية العربية فقط" .
ويخطئ من يعتبر أن ربيع الثورات العربية، وانتفاضات الشعوب العربية فى تونس ومصر واليمن وليبيا وسوريا، كانت فى مواجهة المخطط الإمبريالي – الصهيوني أولا…! لكنها كانت في نفس الوقت وبشكل جنيني معادية للنهب الرأسمالي والتبعية للغرب اقتصاديا وسياسيا. لقد نقلت ثورات الربيع العربي – بالمعني المباشر – مهمة تحرير الشعوب من الاستغلال السياسي والاقتصادي الإمبريالي إلى مرحلة ثانية أو ثالثة. ليس لأن هذه المهمات فقدت أهميتها، وإنما لأن المحرك الأساسي لها كان الحرية والكرامة والعدالة الاجتماعية.
إن الخلل في ترتيب أولويات النهوض بشعوب البلدان العربية خلال فترة الثمانينات من القرن الماضي لدى الحركات والقوى السياسية اليسارية والقومية في العالم العربي أدى إلى إصابة كافة هذه القوى بحالة من "الجفاف الجماهيري" منذ تلك الفترة، وأسفر عن دخول حركة التحرر الوطني العربية فى أزمة حقيقية بسبب عجز قياداتها البرجوازية عن حل أزمات الوطن، وتحولها إلى أنظمة فاسدة ديكتاتورية، لا تدخل في بنود أولوياتها مصالح الوطن، ويقتصر دورها على نهب ثروات البلاد، وزيادة إفقار المواطنين.
وغرقت هذه الحركات السياسية في شعارات مواجهة المخطط الإمبريالي كمنطلق أساسي فى كافة تحليلاتها للأوضاع فى البلدان العربية، ما دفعها إلى غض البصر غالبا عن أزمات البلدان الاقتصادية وسياسات السلطات الحاكمة المعادية لحرية الرأي والديمقراطية استنادا لرؤية تعتقد أن تحرير البلاد من القهر والاستغلال الاستعماري هو الخطوة الأولى على طريق بناء نظام وطني، بدلا من أن تبني رؤيتها على تحرير المواطن في مجتمعه ليتوفر لديه الدافع والقدرة على مواجهة الأطماع الخارجية. وكان يتم تبرير سياسات الأنظمة الديكتاتورية المعادية لحرية الرأي ولكرامة المواطن تحت شعار مواجهة الإمبريالية والصهيونية.
وانحصر الصراع السياسي على السلطة خلال تلك الفترة ضمن دائرة معزولة عن الشعوب ومصالحها، بين النخب السياسية والاقتصادية. ولم يندرج انتهاك حرية وكرامة المواطن وأزماته الاقتصادية والاجتماعية فى جداول أعمال هذه النخب السياسية، بما فيها جماعة الإخوان المسلمين وجماعات الإسلام السياسي، التي تركزت جهودها على تطبيق أحكام الدين ضد قضايا الإباحية والخمور وما إلى ذلك من ملفات.
وخلافا لأزمات القوى السياسية الناجمة عن عزلتها وحالة "الجفاف الجماهيري"، تمكنت قوى الإسلام السياسي، وبشكل خاص جماعة الإخوان المسلمين من الوصول إلى المواطن العادي بأسلوب غير سياسي، بقدر ما كان عقائديا أو إيديولوجيا. واعتمدت الجماعة في تحريك جموع أنصار هذه الجماعات نفس المبدأ الذي تستخدمه السلطة الديكتاتورية الحاكمة، وهو مبدأ "السمع والطاعة"، واستفادت جماعات الإسلام السياسي من حرص قطاعات واسعة من المجتمع على التردد على المساجد، التى استخدمتها كمراكز لنشاطها السياسي.
إن اندلاع ثورات الربيع العربي بشكل عام، وثورة 25 يناير بشكل خاص، كان بمثابة الإعلان الرسمي لوفاة هذه القوى وولادة رؤية نظرية وسياسية جديدة فى علم الثورة والتغيير الجذري، تحتل حرية المواطن وكرامته وهمومه المعيشية المرتبة الأولى فى جدول أعمالها، ما كان تعبيرا مباشرا عن هموم المواطنين، وتجسيدا لطموحاتهم.
وطرحت هذه الثورات طريقا جديدا للتحرر والاستقلال..يعتمد بالدرجة الأولى على حرية المواطن ووعيه بحقوقه السياسية والمدنية وبضرورة ممارستها، وحق المشاركة في القرارات المصيرية وفي تحديد مسارات حياة المجتمع أو الوطن الذي ينتمي إليه ويعيش فيه وصولا إلى أهمية بناء دولة مدنية ديمقراطية، بعبارة أخرى هذه الثورات كانت موجهة بالدرجة الأولى من أجل أن يستعيد المواطن البسيط إنسانيته وأبسط حقوقه المهدورة.
لكن غياب القيادات السياسية القادرة على إدارة الصراع في خضم ثورات الربيع العربي لتحقيق ذلك فسح المجال للقوى الوحيدة المنظمة والباقية من العهد البائد للقفز على قمة هرم السلطة بعد بدء عملية إسقاط الأنظمة الديكتاتورية المنتهية الصلاحية. إذ انفردت قوى الإسلام السياسي وتحديدا جماعة الإخوان المسلمين بساحة العمل السياسي بعد انهيار وتشظي قوى اليسار والقومية العربية. وقد مكن دعم القوى الخارجية وفلول الأنظمة الديكتاتورية المنتهية الصلاحية جماعة الإخوان من تولي مقاليد الحكم في عدد من بلدان الربيع العربي، لإدراك فلول أنظمة هذه البلدان والقوى الخارجية أن جماعة الإخوان ستكون قادرة على إعادة إنتاج الأنظمة السابقة ضمن إيديولوجية دينية تضمن "السمع والطاعة" اعتمادا على استغلالها للدين، ومساعيها لتكريس النظام الحاكم باعتبار أنه إرادة الله.
وقد فرض هذا الوضع على القوى المحركة لثورات الربيع العربي العودة إلى الشارع، ورفع شعار "الثورة مستمرة"، لأن مسار هذه الثورات قد انحرف نحو إعادة إنتاج الأنظمة السابقة في إطار إيديولوجي حزبي ضيق، يستبدل القمع المباشر بتكفير المعارضين، ويحل دمهم لأنهم يرفضون شرع الله. ما تطلب من الأنظمة الدينية الجديدة تصفية مؤسسات الدولة عبر أخونتها بهدف السيطرة على كافة مفاصلها.
لقد شاخت وبدأت تحتضر الأحزاب التقليدية وحتى المعارضة منها، إن كانت يسارية وقومية أو إسلامية، لأنها نسخت المنهجية الديكتاتورية فى إدارة حياتها الداخلية ومعاركها السياسية من منهج الأنظمة الحاكمة، وما جعلها مجرد ديكور في شرفات هذه الأنظمة القمعية لسنوات طويلة. ولأن القوى السياسية أو الأحزاب ليست مدارس أو دور عبادة، وإنما هي اتحاد كفاحي اختياري يقوم على رؤية مشتركة برنامجية لإدارة حياة المواطنين.
لم تعد الشعارات الكلاسيكية الجاهزة..والوصفات القديمة المحددة..و"التك اوي" صالحة لإدارة حراك الشعوب الثائرة. ولم يعد ممكنا فرض وصية على الحراك الشعبي التواق للتغيير. لقد أصبح من الصعب حرق المراحل في تحقيق هذا الهدف.
ولا تقتصر أهداف الثورة على الخبز والاستقرار، لقد أحتلت هذه الأهداف المرتبة الثانية في أولويات القطاعات الرافضة لأشباه الأنظمة الديكتاتورية السابقة التي تعيد جماعات الإسلام السياسي إنتاجها. وسيعاني الحراك الشعبي الثائر من رياح الفوضى العارمة والارتباك، وسيمر عبر منحنيات ومنعطفات، التي ستؤدي لتبلور وعي مختلف قطاعات الشعب باتجاه سبل تحقيق أهدافه في الكرامة والحرية والعدالة الاجتماعية.
وكالة أنباء موسكو