الرقص مع الموت …..
الرقص مع الموت فمع الوقت .. عندما يصبح الموت حالة اعتيادية يومية، كسماع موجز أخبار أو حصيلة اليوم .. ويتحول من شعور مؤلم موجع بالفراق إلى مجرد أرقام .. يتأطر الموت ضمن بورصة رقمية ترتفع وتنخفض حسب الأعداد، مؤشرة أن الموت ما زال هو المسيطر الأول على سير حياة هذا الشعب، الذي تأقلم معه لدرجة انه أنزله في برنامجه اليومي كحدث رئيسي .. يلعب معه .. أو يستعد لسماع خبر أي شخص قريب أو بعيد وقد عانق الموت مودعاً هذه الحياة، كرقم جديد يضاف الى قائمة أرقام لعبة الموت العبثية .
فعندما تتجول بين القذائف وتعبر فوق المتفجرات .. وتلعب مع القناص لعبة الغميضة لتشعر بسعادة غامرة أنك فزت ومررت بسلام من بين طلقاته .. تشعر بانتصار من نوع فريد هو النصر على الموت … وتشعر بلذة غريبة ..هي لذة البقاء …!!!
وقد تصل الى حالة ترفض أن تقيم أي علاقة مع أشخاص حقيقيين، وترفض أن تحيي علاقاتك الاجتماعية القديمة خوفاً من الألم الذي قد تشعر به في حال أنك فقدت أحداً منهم في تفجير أو قصف أو رصاصة قناص!
لعبة قذرة يتقنها تجار الموت وصناع الحروب الذين يقتحمون حياتنا الآمنة من باب الحماية والوطنية والخيانة والعمالة .. أو من باب الأفضلية والأحقية بالحياة .. أو من باب الدفاع عن طائفة ضد تطهير طائفي مضاد .. أو.. أو.. الى ما هنالك من تبريرات تبقى أبعد ما تكون عن حقوق الانسان والمواطنة والشعارات الطنانة الكبيرة من حق التنوع والاختلاف والحرية .. إلى أهمها على الإطلاق وهو حق الحياة.
فكيف يتحول حق الحياة التي وهبها الله للانسان إلى حق الآخر باستباحة هذه الحياة من منطلقات وشعارات وتحت مسميات الوطنية والطائفية والعنصرية؟ وما الحدود والفروق التي تميز حق الدفاع عن النفس أو عن الوطن .. وبين التعدي والاعتداء على الآخر واستلابه حقه في الحياة والكرامة والحرية .
مفاهيم ضيقة وحساسة جداً عندما تكون بين أفراد الشعب الواحد .. وواضحة ومحددة عندما تكون بين الدول المختلفة المتباعدة.. ليصبح للاقتتال الأهلي والحروب والنزاعات الداخلية حساسية انسانية أعلى بكثير من محاربة عدو اغتصب واستلب وتعدى على أراضي وحقوق دولة أخرى … ذات استقلال وسيادة وحدود واضحة المعالم.
فالدفاع عن النفس حق مقدس وحماية الناس كذلك .. لكنه يسقط في مستنقع القتل والاجرام عندما يتحول الى هجوم وتهجم على الآخر .. وعندما يُستخدم المدنيون دروعاً بشرية ليحتمي بها .. بالمقابل يتحول حق الدولة بحماية نفسها إلى جريمة بحق الشعب عندما تغيب المحاسبات والعدالة والقانون، ويستبيح شخوص النظام وأجهزته الأمنية قتل الشعب بحجج أنهم عملاء أو خونة ، وبناء” على تقارير ومعلومات من عناصر لا مصداقية لها إلا الحقد والثأر الشخصي ربما .!! فتراهم يستلبون حياة البشر المختلفين عنهم ، وكأن هؤلاء البشر هم مجرد حشرات أو جراثيم أو جرذان يجب القضاء عليها لتطهير الوطن ، أو تحريره ممن يعيق أمنه وأمانه ويهدد أمنه واستقراره .. ليتداخل مفهوم مكافحة الجريمة والقانون والحساب، بمفهوم التطهير والتحرير .. وليتداخل مفهوم الخيانة بمفهوم الاختلاف.. وتضيع القيم الانسانية والوطنية ، ويستباح الدم ويعم الحقد والثأر والانتقام بضياع القانون والعدالة.
وللخروج من دوامة القتل والثأر والعنف مهما طال أمد الصراع .. وطالما أن لا نية هناك لتدخل خارجي عسكري ينهي هذا الصراع المسلح لمصلحة أحد الأطراف .. يبقى الحل الوحيد هو التفاوض لوقف العنف أولاً بغض النظر عن من بدأ .. ضمن اتفاقيات محددة واضحة لا غالب فيها ولا مغلوب ، ولا منتصر ولا مهزوم إلا ارادة الشعب ..
تمهيداً لمرحلة المحاسبات والمحاكمات لتقتص من القتلى والمجرمين ، وتحاسبهم ضمن قوانين العدالة والقضاء .. وتلغي ما قبلها من شريعة الغاب بأخذ الثأر والانتقام .. وتنطلق بعدها لمرحلة إعادة الاعمار وإعادة تهيئة المجتمع للتعايش من جديد، ضمن برامج توعية مدنية بدمج المواطنين بالمشاركة بتقرير مصير البلد، وإعادة بناء الهيكلية الاجتماعية والسياسية على أسس التنوع والاختلاف وتقبل الآخر .. بحيث يتمكن المواطن من الانتقال من الرقص مع الموت الى الرقص مع المواطن الآخر … رقصة مشتركة لبناء الوطن على أنغام المواطنة والحرية والديمقراطية الحقيقية.