‘تاريخ القرصنة البحرية’ يبحر في جوانب ملهمة للجريمة
صحيحٌ أن تاريخ القرصنة البحرية معروفٌ لنا جميعًا من خلال عددٍ كبيرٍ من الكتب الواسعة الانتشار، الذائعة الصيت، على أنَّ كل هذه الكتب تقريبًا ليست سوى روايات وقصص وأشعار بايرون، وفولتير، وسكوت، وفينيمور كوبر، وماين ريد، وستيفنسون، والكابتن مارييت، أمَّا المؤلفات العلمية المتخصصة أو العلمية المبسَّطة؛ فلم يكنْ لدينا منها شيء، لا من تأليفنا، ولا من ترجمتنا، على الرغم من أن تاريخ القرصنة أمرٌ مشوق، لا في حد ذاته فحسب؛ بل لأنَّه يساعدنا، فضلًا عن هذا، في فهْمِ نشأة العديد من الدول التي ترك النهب البحري بصماتٍ واضحةً على ماضيها فهمًا أفضل.
وهذا الكتاب “تاريخ القرصنة البحرية” للكاتب الصحفي البولندي ياتسيك ماخوفسكي، والذي لا يوجد عنه الكثير من المعلومات سوى أنه مؤلِّف هذا الكتاب الشهير الذي صدر أصله باللغة الروسية عام 1995، وصدرت طبعته الأولى عام 2016، وطبعته الثانية أخيرا عن مؤسسة هنداوي عام 2023، للمترجم د.أنور محمد إبراهيم وضمنه مقدمته الروسية للمؤرخ والباحث أ. ب. دافيدسونالذي رأى أنه ربَّما لم تكن القرصنة مجرد تاريخٍ أُغلقت صفحاته، بل هي كما يبدو واقعٌ حيٌّ تمامًا، على الرغم مما ورد ذكره في موسوعة “بروكهاوس وإفرون” الصادرة في القرن الماضي في المقال المعنْون له ﺑ “النهب البحري أو القرصنة”.
تناول ماخوفسكي قراصنة العالم القديم، وبحار الشمال، والبربر، والقرصنة في البحر الكاريبي، وقراصنة بحار أميركا الشمالية والمحيط الهندي وبحار الجنوب والشرق الأقصى، وقراصنة زماننا، وقد رأى دافيدسونإنَّ تكرار حوادث خطف الطائرات والسفن بصورةٍ حادةٍ في أيامنا هذه، يُعَد من جانب كثيرٍ من الناس بمثابة بعثٍ للقرصنة؛ مما دفع بالحكومات والمنظَّمات الدولية للنظر من جديدٍ في مسألة مكافحة القرصنة، واتخاذ الإجراءات بشأنها. وفي هذا الكتاب يحاول ياتسيك ماخوفسكي أن يطرح تصورًا لكل المراحل الرئيسية للقرصنة. هنا يمتد زمن الأحداث من العالم القديم وحتى عصرنا الحديث، أمَّا مسرح هذه الأحداث فهو كوكبنا بأَسْره، كل البحار حيث كان أسطول القراصنة، على حد قول كيبلنج: “هنا وهناك يرسل بالتحية إلى السفن التي يلتقي بها”.
وقال إنَّ الإحاطة الكاملة بأحداث هذا الموضوع أمرٌ يبدو مستحيلًا، لقد كانت للقرصنة بطبيعة الحال سماتها المميزة في شتى العصور وفي شتى البلاد، وهيهات أن يتسنَّى لنا فهْم هذه الظاهرة ذاتها فهمًا تامًّا ما لم نقم بدراسةٍ مفصلةٍ لهذه العصور وهذه البلاد، ناهيك عن أنَّ المرء ما إن يقرر أن يأخذ على عاتقه أمر دراسة تاريخ القرصنة، حتى يصطدم على الفور بمشكلة النقص الحاد في الوثائق، وعلى رأسها التي يُستند فيها إلى القراصنة أنفسهم؛ فكتابة السير الذاتية والمذكرات لم تكن من أشكال النشاط المحبَّبة لديهم، كما أنَّ رسم مظهر هؤلاء الناس وتخيل حياة مجتمع القراصنة أمر كثيرًا ما تكتنفه الصعوبات؛ ولهذا فإنَّ البحوث الجادة ـ وحتى بخصوص فترات محددة في القرصنة في إطار علم تاريخ العلم ـ شحيحة، أما كتابة التاريخ العلمي الحقيقي للقرصنة عبر كل العصور؛ فهو عملٌ معقَّدٌ للغاية، ويصعب على فردٍ واحدٍ القيام به، مهما كان مسلَّحًا بمعارفَ موسوعيةٍ.على أيَّة حالٍ، فمن البديهي أن ماخوفسكي لم يضع نصب عينيه هذه المهمة، لقد قام على نحوٍ مُفعمٍ بالحرية بحكايةِ أوضح حكايات هذا التاريخ، بل ووضع بعض صفحاته في قالبٍ روائي.
ستمرُّ أمام القارئ أسماء: هنري مورغان، ملك قراصنة وست إنديا، وهو النموذج الأصلي للكابتن بلاد في رواية رفاييل ساباتيني الشهيرة، وجون إفري الذي كرَّس له دانيال ديفو ـ مؤلف رواية “روبنسون كروزو”ـ اثنين من كُتبه؛ الأول في الأدب الاجتماعي، واتخذ له عنوان “ملك القراصنة، أو تقرير عن المآثر المجيدة للكابتن إفري، الذي ادَّعى لنفسه لقب إمبراطور مدغشقر في خطابَيه اللذين كتبهما بنفسه”، والثاني روايته “حياة الكابتن سينغلتون العظيم ومغامراته”، إلى جانب الشخصيات الرائعة الأخرى لعالَم القراصنة، الذي جرى تأسيسه في جزيرة مدغشقر، وعلى رأسه جيمس بلانتين “ملك” رانتر-باي (هكذا كانوا يسمونه على اسم الخليج الذي كان يفرض عليه سلطانه)، وعروج، وخير الدين، وقد اشتهر باسم بارباروسا الأول، وبارباروسا الثاني حكَّام ما كان يسمى بدولة القراصنة البربر، التي قامت في الجزائر على مدى عدة قرون، وحتى الثُّلث الأول من القرن التاسع عشر، أي حتى سقوط سيطرة الباب العالي العثماني.
ولفت دافيدسونإلى أن عالَم القرصنة حوى أُناسًا من شتَّى الأجناس؛ أوروبيين، عربًا، صينيين، ومن الملايو، وإندونيسيا. هؤلاء الناس وتلك الأحداث، التي ستتعرف عليها أيها القارئ بفضل كتاب ماخوفسكي، ستساعدك في رؤية جوانبَ مختلفةٍ تمامًا للقرصنة، وكذلك في اكتشاف جذورها الاجتماعية والنفسية إلى حدٍّ ما، وهو للأسف أقل الجوانب دراسةً، وإن كان من أكثرها أهميةً. إنَّ معاصري الأحداث ومَن تلاهم من مؤرخين لم يُولوا دور القرصنة كشكلٍ من أشكال الاحتجاج الاجتماعي، سوى أقل القليل من اهتمامهم.وعلى الرغم من أنَّه لا يمكن إطلاقًا تبرير مهنة القرصنة أو تصورها في قالبٍ مثالي ككل، فإنه لا يمكن في الوقت ذاته أن ننكر أنَّها كانت في بعض الأحيان شكلًا من أشكال الاحتجاج خروجًا على مجتمعٍ قائمٍ على الظلم، مجتمع تنظمه علاقات تعسُّفية، وتتحكم فيه بشكلٍ صارم مؤسساتٌ جائرةٌ.وقد كانت القرصنة، في أحيانٍ أخرى، مرتبطةً أيضًا لا بمجرد كونها احتجاجًا اجتماعيًّا، وإنَّما بالسعي لتحقيق نظام اجتماعي جديد، وفقًا لأفضل مُثُل ذلك الزمن.
ورأى أن أوضح مثال على هذا هي جمهورية ليبرتاريا، دولة البحرية التي أقامها القراصنة في نهاية القرن الـ 17 في شمال مدغشقر، هناك حيث تقع الآن مدينة ديبجو سواريز، أَسَّس هذه الدولة النبيل البروفنسالي ميسون، والدومينيكاني الإيطالي كاراتشيولي، وقد التَقَيا وتوطدت بينهما أواصر الصداقة في وطن تومازو كامبانيلا الذي كان هو الآخر من مُواطني الدومينيكان، واشتهر بأفكاره الاشتراكية، فضلًا عن إسهامه في حركة التحرير الشعبية في جنوب إيطاليا. رأى كارتشيولي ـ شأنه في هذا شأن ديكارت وعدد آخر من فلاسفة المذهب العقلاني آنذاك ـ أنَّ الله سبحانه وتعالى بعد أن خلق البشر توقَّف عن التدخل في شئونهم اليومية، وعلى هذا فإنَّ القوانين التي وضعوها هي التي تسود المجتمع البشري، وليست قوانين الله العلي القدير، أي إنَّ من الممكن، بل ومن الواجب، التمرد على هذه القوانين. وهكذا أعلن ميسون وكارتشيولي الحرب على الأوضاع التي هي من صُنع البشر؛ مثل النظام الملكي، وعدم المساواة بين الناس، وغيرها من الأمور الأكثر خصوصية؛ مثل قوانين الإعدام على سبيل المثال، على أنَّ أوروبا لم تكن بها آنذاك قوة تستطيع الوقوف ضد أعمدة نظام الدولة، عندئذٍ لم يكن أمام الفلاسفة الشُّبَّان الذين قرروا تغيير النُّظم القائمة، سوى التوجُّه لتلقِّي العون من القراصنة.
وتساءل دافيدسون:تُرى ما الذي دفع هؤلاء الناس إلى الاستعانة بالقراصنة بالذات؟ وقال “لقد كانت هناك أسبابٌ عديدةٌ ومهمةٌ للغاية بمقياس هذا الزمان.لقد تسنَّى للقراصنة أن يرفضوا مبادئ العصر وتقاليده التي بدت آنذاك راكدةً بعيدة عن كل تغيير، كما تسنَّى لهم أن يُسقطوا تلك الغمامة التي أصبح أُفق الناس بسببها ضيقًا محدودًا. استطاع القراصنة المطاريد النازحون من مختلف شرائح طبقات المجتمع أن يروا الحواجز التي فرضتها الأعراف الاجتماعية، فقد كان من بينهم أناسٌ متعلِّمون وآخرون من حُثالة المجتمع، ضباط ملكيون وبحارة وموظفون عملوا فيما مضى في إدارة الأسطول البحري، ولصوصٌ نكرة تواءموا جميعًا علىى ظهر سفينةٍ واحدة، بذلك تحقَّق الالتحام الوثيق بين هؤلاء الفرسان الذين انحصرت مهمتهم في أخذ كل سفينة غصبًا، ولعله لم توجد في تلك العصور جماعة تقاربت فيما بينها بمثل هذه القوة مثل طاقم سفينة القراصنة. إنَّ النجاح المشترك هنا، بل والحياة ذاتها، كانا وفقًا على شجاعةٍ وانضباط كل فرد من أفراد هذه الجماعة؛ ولهذا فقد كان على كل مَن يدخل في عِداد أي عصابةٍ كبيرة مثل هذه أن يوقِّع على ميثاقها، ولو بمجرد رسم صليب، وفي الوقت نفسه يقوم بتقبيل الكتاب المقدس. أمَّا المساواة وحرية التعبير عن الآراء فكانت تمثِّل المبادئ الأساسية لهذا التنظيم، فالقبطان لا يملك اختيار الطريق الذي ستسلكه السفينة، أو يحدد هدف الإغارة إلَّا بالموافقة الجماعية، أمَّا الأسلاب والغنائم فقد كان يتم تقسيمها وفقًا لنظامٍ صارم تم إقراره.
وأشار إلى أنه ليس من قبيل المصادفة إذن أن نال القراصنة إعجاب العديد من أفضل أبناء القرنين الـ 17 والـ 18.كتب فولتير، أكبر فلاسفة القرن الثامن عشر، مقالًا للموسوعة الفرنسية في مادة “القراصنة” جاء فيها: “لم يكَد الجيل السابق يقصُّ علينا العجائب التي تمت على أيدي هؤلاء القراصنة، حتى أخذنا في الحديث عنهم دون انقطاع، لقد مسُّوا لدينا وَتَرًا حساسًا.. ولو أنَّهم استطاعوا أن تكون لديهم سياسة تقف على قدم المساواة وجسارتهم الجبارة، إذن لأقاموا إمبراطورية عُظمى في أميركا.. لا الرومان، لأن غيرهم من الشعوب التي قامت بأعمال النهب، استطاعوا أن يحققوا مثل هذه الفتوحات المدهشة”.
تحدث ماخوفسكي بالتفصيل عن أفكار ميسون وكارتشيولي، وعن جمهورية ليبرتاريا التي أسسوها معًا، ويورد نص الخطاب الرائع بالنسبة لتلك العصور، والذي توجَّه فيه لرجاله عندما استولوا على سفينةٍ تحمل عبيدًا عنه عند الشواطئ الأفريقية بقوله: “هاكم مثالًا عن القوانين والأعراف المخزية التي نحاربها، إنَّ هؤلاء اللصوص الذين يتعيشون على تجارة الرقيق لا يملكون روحًا ولا قلبًا، إنَّهم يستحقون العذاب المقيم في نار جهنم! إنَّنا ننادي بالعدالة للبشر دون استثناء؛ ولهذا فإنَّني أُعلن وفقًا لأفكارنا أنَّ هؤلاء الأفارقة أحرار، وأدعوكم جميعًا يا إخوتي أن تعلِّموهم لغتنا وديننا وعاداتنا وفنوننا البحرية، حتى يستطيعوا أن يكسبوا قُوتَهم من عملٍ شريف، ويدافعوا عن حقوقهم الإنسانية”.
وأضاف دافيدسون أن أفضل صفات القراصنة ألهمت العديد من الأدباء فيما بعدُ، وتم وضع هذه الصفات في قوالبَ شعرية، كانت رومانسية صعاليك بحار الدنيا قد نفدت من زمنٍ بعيد إلى بلادنا، بالرغم من أنَّ روسيا لم تكن لها إطلاقًا أية جُزر تحدها الصخور، كما لم يكن لها أوكار للقراصنة في الخلجان الاستوائية السرية، وقد تمت في القرن الماضي ترجمة “اللصوص” التي كتبها بايرون إلى الروسية، وكتب الشاعر تيموفييف، صاحب أغنية “لم يجرِ تعميدنا في الكنيسة”، في عام 1835م قصيدته “القراصنة”.
وظهر في الشِّعر الروسي أيضًا “القراصنة الذين أخفوا الذهب في ميناءٍ سري”، ثم ذاعت بعد ذلك أغنية “روجر المرح”، وتبعتها أغنيات تتحدث عن سفن القراصنة ذات الصواري، المتعددة الأشرعة في البحار البعيدة، كأعمالٍ أدبية خالصة تجسد حب الحرية والشجاعة والطرق المجهولة والبلاد النائية والخروج من ملل الحياة اليومية، حتى أصبحت هذه الأغنيات قاسمًا مشتركًا مع الأغاني التي اعتاد الرحَّالة أن ينشدوها حول النار، إنَّ الكتب ذات الطابع الرومانسي المقروءة في الطفولة، والتي تبدو كما لو كانت غير مرتبطة بحياتنا، اتضح أنَّها من الأمور الحيوية لدى الشباب، ولا نضيف جديدًا بالطبع إذا قلنا بأنَّ هذا شيءٌ لا اعتراض عليه، بالرغم من أنَّ أصحاب الوجوه الصارمة والذين يفتقدون روح الدعابة يسعون إلى اجتثاث أعمال، مثل “قراصنة البحر الأزرق البعيد”. ذكر الموسيقار نيكيتا بوجوسلوفسكي، والشاعر ميخائيل لفوفسكي، صديق الشاعر بافل كوجان، مؤلف أغنية “الكرة الأرضية تدور وتدور” أنَّهما تعرَّضا للتعنيف الشديد بسبب حكاية “القبطان ذو الوجه الخشن كالصخور”. طبعًا، لقد اعتُبرت أعمالهما ابتعادًا عن الواقع المألوف إلى الطرائف المشكوك فيها إلى عوالم ستيفنسون، وجوميلوف وجرينوفشن، إلى الرائحة الكريهة ﻟ “جون الأسمر” و”أغاني إيزا كرامر”.