نوافذ

“تتن عمي تتن”

محمد الحفري

استعرنا هذا العنوان ونقصد ” تتن عمي تتن” من قصة للكاتب السوري الراحل وليد معماري، حيث قضى بطله الليل بطوله وهو يقدم لضيفه “التتن الملفوف” مع شراب “المته” وقد تبادل البطل وضيفه الأدوار على تلك الكأس التي أصبح طعمها بعد مرور الدقائق الأولى من استعمالها مجرد ماء، يسخن بين هنيهة وأخرى على نار الحطب.

قدم صاحب البيت اعتذاره للضيف، لأنه لا يملك ولو ذرة سكر واحدة، وليس لديه لقمة خبز يسد بها رمق زائره، ويتبين من القصة أنهما جلسا داخل كوخ ، يقع عند أطراف البادية، وبعضهم  يطلق عليه اسم “الخربوش”.

كلمة “تتن” تعني تفضل ودخن هذه السيجارة التي تقدم إليك، وقد بدا البطل في تلك القصة وكأنه لا يدخن فقط ، بل يأكل تلك المادة “التبغية” كما الطعام، وكان يريد من ذلك الضيف، أو التائه الذي ضل الطريق وأصابته اللعنة حين مر على كوخه أن يبقى ساهراً معه، كي يشكو له من ابنته التي هربت، ولم يعد يرى سوى صورها على أغلفة المجلات الملونة.

خرجنا أكثر من مرة عن موضوعنا، ونحن لا نريد الدخول في تحليل تلك القصة، لكننا على الهامش نقول: إن تلك الفتاة قد فعلت الصواب عينه.

لا نريد من خلال كلامنا الترويج لذلك السم القاتل الذي يبقى مرافقاً لمن يدمنه حتى يودي به إلى القبر، أو يترك في جسده علة فظيعة، ولا ينجو من ذلك إلا من امتلك الإرادة كي يفر من شروره، وفي بلادنا تطلق عليه تسميات كثيرة منها ” الغازي، الحسنبكي، الحموي، ودنهل، وسومر والقشق والعربي” وغيرها ولكل مدخن فلسفته الخاصة، فمنهم من يدعي أنه يساعد في حالات الحزن الشديد، ومنهم من يقول أنه مناسب للفرح، وقد يأتي من يغالي في الأمر ويربطه بالحياة، وهو لا يستطيع العيش من دونه، ويقال من قبل الكبار في السن أنه كان ممنوعاً أيام فرنسا، وكان الناس يزرعونه خفية في الأماكن التي لا تصل إليها أعين الدرك، أو الشرطة.

عندما وصل إلينا الدخان الملفوف والمصفوف داخل علب كرتونية ، كان السبب في حالات كثيرة مؤذية وجارحة في الآن ذاته منها الطلاق، وطرد الابن من المنزل، أو انضمام الطفل إلى رفاق السوء وغيرها، كما دخل في الكثير من مفاصل حياتنا، وقبل أيام من كتابة هذه المادة جاء صديقي “حسن” الذي يعمل في صحيفة شهيرة وروى لي أنه سمع امرأة تغازل حبيبها باللهجة المحكية، قائلة:

” لفلي سيكارة تتن من تتنك الغازي  وإن  كان نارك طفت ولعها بعزازي” وعزازي لا معني لها على ما أظن، لكننا خجلاً وضعنا حرف العين بدلاً من الباء.

ولأننا جئنا على سيرة التتن والدخان، والشعر المحكي، فقد قرأت منذ مدة أبياتاً أنشدتها فتاة ما على شكل أغنية بسبب غياب حبيبها  تقول فيها :

” دخنت بغيابك دنهل وسومر

وقلبي بغيابك جنزر وسومر

أحبك من عهد بابل وسومر

وحمورابي انكسر قلبه عليه”

مع بداية الأحداث في سوريا، حوصرت الكثير من القرى والبلدات، وأصبح العثور على السلعة شبه مستحيل، وفوجئت ذات يوم بوالدتي تستند على عصاها في الشارع ، وعندما سألتها عن وجهتها، قالت:” رايحة اشحد دخان” ومعنى ذلك أنها ستتحول إلى متسولة، وحين رجوتها أن تتراجع عن ذلك هزت عصاها في وجهي، وقالت:” أنا ما بفهم شو يعني ثورة وحرية ونظام، دبرلي دخان أحسن من كل هي السوالف” وكي لا تنفذ تهديدها وتفضحنا في البلدة، قمت بترك التدخين، وشاركني في ذلك صديقي الذي قصد منزلنا خوفاً من الأحداث الجارية، وصرنا معاً نسعى كي نؤمن لها كل يوم عدداً محدوداً من السجائر.

بوابة الشرق الأوسط الجديدة

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى