تحرير سعر الصرف: هجوم جديد على الفقراء
على نحو غير مفاجئ، استيقظ المصريون، صباح أمس، على قرار المصرف المركزي المصري القاضي بتحرير سعر الصرف تاركاً الدولار للعرض والطلب في السوق. القرار الذي أسماه المصرف المركزي «إجراءات لتصحيح سياسة تداول النقد الأجنبي» بحسب نص البيان الذي نشره المصرف، تضمّن أيضاً رفع سعر فائدة الإيداع والإقراض لتصل إلى 14.75 و15.75 في المئة على التوالي.
القرار الذي كان مُنتظراً منذ بدء المفاوضات مع «صندوق النقد الدولي»، سبقه تمهيد واضح في الأسواق. فقبل أيام، اشتعلت السوق المُوازية لتداول العملات خارج القنوات المصرفية، بحيث بلغ الفارق بين السعر الرسمي للدولار، 8.83 جنيهات، وسعر السوق المُوازية 100 في المئة، وهو ما لمّحت إليه مديرة «صندوق النقد الدولي» كريستين لاغارد في مُقابلة صحافية قبل أيام، مُحفّزة الحكومة المصرية على اتخاذ قرار تحرير سعر الصرف سريعاً وبالكامل. وقبل يومين من اتخاذ القرار بدأ تراجع واضح في السوق الموازية للعملات، وبدأ سعر الدولار في التراجع بالتدريج حتى وصل إلى 14 جنيهاً، وهو ما ارتبط بتصريحات لمسؤولين في الدولة تؤكد قرب تراجع سعر الدولار، مُحذّرة حائزي الورقة الخضراء من اكتنازها، ليُحجم المُضاربون أيضاً عن الشراء. كما ساهم في ذلك قرار شعبة المُستوردين في الغرف التجارية بوقف استيراد كل السلع ما عدا الأساسية لمدة ثلاثة أشهر.
ولكن القرار الذي يُعدّ تحوّلاً كبيراً في السياسة النقدية في مصر، يُعدّ ضرورياً بالفعل للحصول على قرض «صندوق النقد الدولي» بقيمة 12 مليار دولار. ولكنه مثل كل شروط «صندوق النقد الدولي» أو نصائحه، يحمل أعباءً جديدة على الفقراء. وعلى الرغم من إشادة «صندوق النقد» أمس بالقرار عقب اتخاذه مُباشرة، واعتباره «يُعزّز القدرة التنافسية للاقتصاد المصري ويجذب الاستثمارات الأجنبية ويُساهم في توفير فرص العمل» إلا أنه لا يُمكن تجاهل الآثار المحتملة للقرار على الفقراء.
فالعجز المُزمن في الميزان التجاري في مصر، وتفوّق الواردات على الصادرات بنسبة كبيرة، وعجز ميزان المدفوعات الخارجية الذي ظهر في التقرير الأخير للمصرف المركزي، سيعني أن أولى نتائج قرار المصرف المركزي سيكون موجة تضخّم، ستُضاف إلى موجات التضخّم التي سبقتها بسبب تطبيق ضريبة القيمة المضافة، ورفع أسعار الكهرباء والغاز والمياه، في الوقت الذي انخفضت فيه قيمة الأجور الحقيقية نتيجة تثبيتها بموجب قانون الخدمة المدنية، والذي بدأ تطبيقه على سبعة ملايين موظف في الدولة.
وعلى الرغم من التكهّنات بعدم تأثير القرار على الأسعار، بسبب أن الأسعار ارتفعت من قبل بسبب ارتفاع الدولار في السوق المُوازية، والتي تُحدّد أسعار الواردات وفقاً لها بالفعل، إلا أن تلك التكهّنات تتجاهل أمراً مهماً. هو أن الواردات التي تُعامل وفقاً للسوق المُوازية هي السيارات والملابس والأجهزة وغيرها من السلع الكمالية، أما السلع الأساسية المُستوردة، مثل القمح ومشتقّات الوقود والأدوية، فأسعارها كانت تُحدّد وفقاً للسعر الرسمي للدولار. وبرفع قيمة الدولار رسمياً بما يقرب من 50 في المئة، فإن أسعار السلع الأساسية مُعرّضة بشدّة لموجة تضخّم قاسية. ومع إصرار «صندوق النقد الدولي» أيضاً على إلغاء دعم الوقود بالكامل، فإن موجة تضخّم أكبر قد تكون في الطريق نتيجة ارتفاع تكلفة نقل البضائع.
في هذا السياق، يبدو أن قرار تحرير سعر الصرف متّسق تماماً مع مُجمل السياسة الاقتصادية التي تنتهجها الدولة، وآخرها القرارات التي اتّخذها المجلس الأعلى للاستثمار بهدف تشجيع المُستثمرين، وتضمّنت تخصيص أراضٍ بالمجان وبأسعار مُخفّضة للمستثمرين، فضلاً عن إعفاءات ضريبية وتسهيلات أخرى. وضمن التوجّه نفسه، يأتي تحرير سعر الصرف لجذب المُستثمرين وهو ما تُروّج له الدعاية الحكومية بشدّة. وربما يكون انتعاش البورصة وارتفاع مؤشرها الرئيسي فور إعلان القرارات بأعلى نسبة منذ 19 شهراً، هو الدليل الأوضح على رضا المستثمرين عن تحرير سعر الصرف. وهو ما يوضح أيضاً المُستفيدين الحقيقيين من القرارات التي تتّخذها الدولة.
قرارات المصرف المركزي تُفسّرها الأزمة الاقتصادية التي يعيشها الاقتصاد المصري منذ سنوات، والتي ترى الدولة أن حلّها يكمن في الحصول على قرض «صندوق النقد الدولي»، بفائدته المنخفضة، والذي لن يعني توفير نقد أجنبي يدعم احتياطي المصرف المركزي فقط، ولكنه سيعني بالأساس شهادة ثقة للاقتصاد المصري، تدعم توجّهه لجذب الاستثمارات الأجنبية.
المعادلة التي تعتمدها الحكومة في توجّهها الاقتصادي هي أن جذب الاستثمارات سيعني التوسّع في المشاريع وتوفير فرص عمل، وزيادة الإيرادات الضريبية، ما يؤدي لخفض عجز المُوازنة لدعم الطلب الداخلي والتصدير أيضاً، وبالتالي ينتعش الاقتصاد.
ولكن ما تُقدّمه الدولة بالفعل لجذب الاستثمارات، هو ما ينبغي أن تحصل عليه. ففي سبيل إقناع المستثمرين تُخفّض الدولة الضرائب على الحدّ الأقصى للدخل، وتُقدّم إعفاءات ضريبية على الأرباح، بعضها دائم وبعضها لخمس سنوات، وتضع تشريعات لعلاقات العمل تعفي المستثمرين من المسؤولية الاجتماعية وتُيسّر لهم فصل العمال والتخلّص منهم، ولا تُلزمهم بمستويات للأجور. هكذا يكون جذب الاستثمار في مقابل التخفيف من الضرائب والتوظيف وبالحصول على أراضٍ مجانية، فما العائد الحقيقي للمجتمع من جذب الاستثمارات.
الحقيقة أنه حتى مع كل تلك المزايا التي تمنحها الدولة، تبقى فُرص الاستثمار مرهونة بحجم السوق الداخلي ووضع الاقتصاد العالمي. ومع ارتفاع معدلات الفقر في مصر لمستويات غير مسبوقة، وتباطؤ الاقتصاد العالمي، فإن الإجراءات التي تتّخذها الدولة ليست مضمونة النتائج.
القرارات التي اتخذها المصرف المركزي المصري، صباح أمس، احتفى بها المؤيدون واعتبروها قرارات تاريخية، خفّضت سعر الدولار من 18 إلى 13 جنيهاً. بينما تجاهلوا أن سعر الدولار عندما تولّى الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي كان رسمياً 6.18 جنيهات، وفي السوق الموازية لم يتجاوز السبعة جنيهات إلا قليلاً. وباستهلاك احتياطي النقد الأجنبي في مشاريع عملاقة لم تُدرّ عائدات، وصفقات مع دول الاتحاد الأوروبي وروسيا والصين غلب عليها الطابع السياسي للحصول على التأييد في المجتمع الدولي، أصبحت مُضاعفة سعر الدولار اليوم إنجازاً. ومع استمرار السياسات الاقتصادية المُنحازة للمستثمرين، فإن التكلفة الكلية للأزمة لا يتكبّدها سوى الفقراء.
صحيفة السفير اللبنانية