تداعيات على قبر محمود درويش
سبع سنوات كاملة تفصلنا عن الغياب الجسدي لمحمود درويش. وبمعزل عن البعد الطقوسي لهذا الرقم الذي نستعيد معه حكاية التكوين ومنازل الأراضين والسموات فإن هذه السنوات كافية على قلّتها لضبط ساعة الشعر العظيم على توقيت الخلود من جهة، ولرصد الفوارق الفاصلة بين مرور الشاعر على الأرض والعودة إلى باطنها من جهة أخرى. وإذا كانت مياه كثيرة قد عبرت خلال هذه السنوات من تحت الجسر، وغاب شعراء كثر عن المشهد، وانتظر الكثيرون على الضفاف الجثث القادمة مع مجاري الأنهار، وفسد هواء الأماكن وملح الثورات، فإن ما لم يفسد بعد هو صورة العالم في مرايا القصيدة، والاستعارات التي لم يستطع الموت تدوينها على دفتر الوفيات. وما لم يفسد هو روح الشاعر التي لم تزل قادرة على السخرية من إصرار العدالة على حماية السكين من الضحايا، وحماية القتلة من أغاني المقتولين.
لو أراد الجمال أن يلتقط «سلفي» لنفسه لرأى على شاشة الكاميرا المقابلة صورة محمود درويش. ليس فقط بسبب تعاقد وجهه الستّيني مع وسامةٍ في الملامح تنقلها الكاريزما النادرة من براءتها الطفولية إلى سطوة الحضور الآسر. ولا بسبب العينين الخضراوين اللتين لم تمنعهما نظارتاه السميكتان من الانقضاض الصّقري على سمك الحقيقة الهارب في مياه العالم. ولا بسبب شَعره الأملس الذي تحمله غواية الجناس على التنافس مع شِعره في التناغم مع هبوب الريح. بل بسبب يقينه الراسخ بأن الجمال هو مكافأة الحياة للأحياء عند جذور الألم، وبأن الجميل لا يولد دفعة واحدة بل يستولد نفسه مرة إثر أخرى من ظلمات الآبار. هكذا لم يكتفِ الشاعر بالاتكاء على قوة الرمز في الحكاية الدينية، ولا بتحويل يوسف إلى ذريعة بلاغية لغسل يديه من دم شعبه المراق، بل اخترع جماله اليوسفي من بريق المخيلة وبروق الأحشاء، تاركاً لزليخة الغوايات أن تقدَّ قميصه من دبر، أو تقطع أصابعها بسكين اشتهائه الآثم.
ولم يكن المقدس الفلسطيني، كما زعم البعض، هو وحده الذي رفع درويش إلى سدة الأسطورة. فالمقدّس ليس المشجب المناسب لتعليق النصوص الرديئة على بهاء الفكرة، بل هو تحدٍّ للغة ورفع للمجاز إلى سقوفه الأخيرة التي تجد في القرآن وجهها الأمثل وظهيرها الإعجازي. هكذا بدت الحرب بين الشعري والديني تنافساً بالرموز على ساحة العراك مع الكلمات. وما ارتفاع المعلقات على ستائر الكعبة سوى إيذان بليغ بمحو سوء الفهم المرير بين كلام الخالق وكلام المخلوق. مدركاً هذه الحقيقة في عمقها فهم درويش الشعر بوصفه مباهلة ضارية مع الشياطين، وتدريباً للملاك على زلات اللسان، وحقناً للغة المتكلسة بما يلزمها من حرير الينابيع. وفيما كانت فلسطين تعطي للمئات من شعرائها صافرة الانطلاق، فإن من سقطوا على الطريق كانوا أكثر بكثير ممن أوصلوا الشعلة إلى الهدف. أما هو فلم يكتف بحمل الشعلة، بل راح يتّحد بلهيبها إلى الحد الذي لم يعد بمستطاعنا أن نميز بين حامل النار والنار نفسها. وربما كان شعره الرعوي المبكر كافياً لرفد الأغاني والأناشيد بما تحتاجه من النايات ولوازم الشجن، إلا أن تعاقده مع زلازل الداخل كان أقوى من حاجة قلبه المطحون إلى القليل من الراحة. لهذا راح ينقلب على نفسه كلما شارفت على الاستكانة وأصمّت سمعها عن نداء الأقاصي. لكأنه سيزيف جديد بنكهة درويشية. إذ لعله كان يُوقع الصخرة متعمِّداً كلما شارف على بلوغ الهدف. فلو وصل سيزيف إلى القمة فلن يجد ما يفعله بعد ذلك سوى تربية الضجر على طريق الموت، وانتظار من يحمله عاجزاً إلى المرحاض. لذلك بدا موت محمود في أوج عطائه نوعاً من الموت بالتراضي. كأنه كان يركض أمام حياته لكي يحرس وجهه من التجاعيد، ولكي لا يبدّد جسده الواهن ما راكمته الروح من رصيد الأسطورة.
لم تركن نفس محمود القلقة إلى أي من صفاتها. فقد كان يكتب بحذر الطيور على الماء ويحمل طبائع الغزلان في توجسها من الصيادين. لذلك فهو لم يأنس إلى لغة أو أسلوب متنقلاً من الغنائي إلى الملحمي، ومن الوجودي إلى اليومي ومن المسرحي إلى المشهدي، ومن حماسة الإنشاد إلى حدوس الأعماق، متمثلاً الخلاصات الثُّمالية لقرائح الأسلاف. كأنه خليط غير مسبوق من هوميروس ولوركا، من المتنبي وريتسوس، ومن نيرودا والسياب. أو كأنه المنادى الضائع على مفترق الأوذيسات الفاصلة بين إيثاكا وأريحا والأندلس وسمرقند. على أنه لم يأنس لزخارف البلادة المصمّمة في مشغل العقل بل عهد للحواس الخمس بتدليك اللغة الخامدة، وتعهّد الإيقاع بالطراوة وحياد الفكرة بكهرباء العصب وقوة المباغتة في الصورة، حتى لكأن شعره لا يُتلقًّف بالتصفيق بل بالشهقات. لذلك لم يكن موته ضرورياً لكي ننتبه إليه. إذ كنا نأتي إليه حياً لنستعيد حبل السرة المقطوع بيننا وبين الفرح، ولنستعيد حداءات أمهاتنا على أسرّة الفقد، ولنجعِّد سطوح الحنين بما يلزمها من نسيم القصائد. الجميع يأتون إلى هذا الشعر، في حياة محمود وبعد موته، على صفحات الدواوين أو على شاشات الفيس بوك ومواقع الإنترنت. يأتي إليه الأطفال ليكبروا في ظلاله، والمراهقون ليتحرّشوا بجسد اللغة الشهواني، والمراهقات للعثور على شَبَه إضافي بين النهود والبراعم، والفقراء ليهتفوا معه «إنَّا نحب الورد لكنّا نحب الخبز أكثر»، والمصابون بفقدان الذاكرة ليتعزُّوا بقوله «الذكرى هي النسيان مرئياً»، ويأتي إليه اللاجئون ليصيروا أقرب إلى فلسطين.
أما نحن الجنوبيين فنحتفي بشاعر «الجدارية» نيابة عن لبنان الذي رأى فيه محمود ظهيراً لحاجة المثال إلى التجسد، وعن بيروت التي تفتحت في كنفها أجمل قصائده. ونحتفي به لأن كل قطرة دم تسقط على ضفتي الحدود يعود بعض ريعها إلى الضفة الأخرى. وكل طائر يطير فوق الكرمل يرتسم ظله على جبل الريحان، وكل غيمة تمطر فوق هضاب الجليل تتكفل سيول الجنوب بحملها نحو البحر. كأن الجليل والجنوب شطران لبيت شعر واحد، ووجهان لجغرافيا الروح. ولو كانت الأوطان تُطوى كالثياب لوقع فم حيفا على خدّ صور، وفم عكا على خدّ صيدا، والعكس صحيح أيضاً.
حين كتب محمود في ما يشبه الوصية «وضعوا على التابوت سبع سنابل خضراء إن وُجدت، وبعض شقائق النعمانِ، إن وجدت». لم يكن الإيقاع وحده هو الذي أملى عليه ذلك الاستدراك المرير في نهاية الجملة بل لأنه كان يحدس بموته في شهر آب، حيث لا سبيل للسنابل إلى الاخضرار. وربما كان يحدس بأن الربيع العربي الذي مهّد له سوف يتم إخلاؤه من الأحلام ليصبح مساحة لنفايات الثورات التي لن تجد مَن يطمرها، وساحة للمواجهة الضارية بين براميل الجنرالات وسواطير الأنبياء الكذبة. ومع ذلك فإن الجغرافيا التي نعرفها ليست دائماً على حق. فحيث تنخفض الجبال إلى أدنى مستوياتها يتكفل الشعر بتصحيح المشهد. حتى ليسأل أحدنا الآخر قائلاً: «ما هي القمة الأكثر ارتفاعاً في بلاد العرب؟». فيجيبه الآخر من دون تردّد: «قبر محمود درويش».
صحيفة السفير اللبنانية