تركيا لن تخرج من سوريا.. إلا إذا
مع اقتراب المهلة التي حدَّدها الرئيس التركي رجب طيب إردوغان في نهاية الشّهر الجاري لانسحاب الجيش السوري خلف نقاط المراقبة التركية المحاصرة، وهو ما تأجَّل عملياً بسبب القمة الرباعية التي قال إنها ستعقد في 5 مارس/آذار المقبل، تستمرّ أنقرة في حشد المزيد من قواتها البرية والجوية على طول حدودها مع سوريا في منطقة إدلب.
وقد أرسلت أنقرة أعداداً كبيرة من وحداتها الخاصَّة المدعومة بآلاف الدبابات والمدرّعات والمضادات الجوية والعربات العسكرية إلى المنطقة.
وقال المتحدث باسم إردوغان “إنَّ صبر تركيا نفد حيال ممارسات نظام الأسد فيها”، في الوقت الَّذي استمرت وزارة الدفاع الروسية في اتهام هذه القوات بدعم إرهابيي “جبهة النصرة”، وهو ما تفعله العديد من الفصائل الموالية لتركيا، التي أرسلت الآلاف من مسلّحيها إلى شرق الفرات، و3 آلاف إلى ليبيا، باعتراف الرئيس إردوغان، الذي تحدَّث عن مقتل “البعض من عساكره” فيها، من دون أن يحدّد عددهم.
ومع استمرار التهديدات التي يطلقها إردوغان ووزراؤه وإعلامه ضد سوريا، ومن خلفها روسيا وإيران، تشهد تركيا نقاشاً مثيراً حول مستقبل العلاقة مع موسكو، بعد أن قصفت الطائرات الروسية القوات التركية في النيرب وسراقب.
واكتسب هذا النقاش أهمية إضافية بعد المعلومات التي تحدَّثت عن احتمالات إغلاق المضائق التركيَّة أمام السفن الروسية التي تنقل المعدّات والأسلحة إلى سوريا، وبالتالي إغلاق المجال الجوي التركي أمام الطائرات الروسيّة المتّجهة إلى سوريا، وهو ما سيضطرّها إلى استخدام المجال الجوي الإيراني والعراقي، لأنَّ بلغاريا ورومانيا، وهما عضوان في الحلف الأطلسي، ستغلقان مجالهما الجوي في وجه الطائرات الروسية في حال انفجر الوضع العسكريّ.
وقد أثار استنجاد أنقرة بأميركا لمساعدتها في إدلب الكثير من التساؤلات في أوساط المعارضة التركية التي استغربت تناقضات إردوغان في هذا الموضوع، فقد أصرَّ الأخير قبل عامين على شراء صواريخ أس-400 الروسية لمواجهة احتمالات المواجهة المسلَّحة مع أميركا، التي كان يقول، وما زال، إنها تدعم وحدات حماية الشعب الكردية شرق الفرات.
وباستنجاد إردوغان بالحلف الأطلسي وأميركا، “وتوسّله” لها حتى ترسل له صواريخ باتريوت لاستخدامها ضد الطائرات الروسية التي تمنع تقدم الجيش التركي في إدلب، اكتسبت التطورات طابعاً مثيراً وخطيراً مع احتمالات المواجهة المباشرة بين الجيشين التركي والروسي، على الرغم من التهدئة النسبية بعد الاتصال الهاتفي بين إردوغان وبوتين مساء الجمعة الماضي.
ولا تخفي أوساط المعارضة التركية قلقها من سياسات إردوغان في إدلب ودعمه إرهابيي “جبهة النصرة”، وترى في ذلك استمراراً لمشاريعه ومخطَّطاته، السرية منها والعلنية، والتي تحدّث عنها أكثر من مرة مند بدايات التدخّل التركي المباشر وغير المباشر في سوريا، إذ قال يوم الجمعة المنصرم إنَّ تركيا “لن تنسحب من سوريا إلا بعد وضع حد نهائي لمظالم الأسد، وإنها متواجدة في الشمال السوري بناءً على طلب الشعب السوري، وفي إطار اتفاقية أضنة للعام 1998”.
وكان وزير الدفاع التركي خلوصي أكار، أكثر وضوحاً ليلة الخميس الماضي، عندما تحدَّث إلى قناة “سي أن أن” التركية، وأعلن عن النيات التركية التي يترجمها الجيش عملياً منذ أن سمح له بوتين بدخول جرابلس في آب/أغسطس 2016، وبعد ذلك إلى عفرين، ثم شرق الفرات.
ففي ردّه على سؤال مباشر حول الموعد الذي ستخرج فيه تركيا من سوريا قال: “سنخرج بعد إعداد الدستور الجديد وإقراره، وإجراء انتخابات نزيهة وحرة، وتشكيل حكومة تمثّل الجميع، وإقامة دولة ديموقراطية يأخذ كلٌّ مكانه فيها، ونحن أيضاً سنأخذ مكاننا هناك”.
وأثارت أقوال الوزير ردود فعل واسعة، واعتبرها الصحافي محمد علي جوللار “انتهاكاً صريحاً وخطيراً للسيادة السورية”، ورأى أنها “تثبت رغبة إردوغان في البقاء فيها، وعدم الانسحاب من المنطقة، وبالتالي ضم الشمال السوري إلى تركيا”.
وقال الأميرال المتقاعد، توركار أرتورك، إنَّ الوزير أكار يعكس، من خلال أقواله، “الرؤية العقائدية الخطيرة للرئيس إردوغان الخاصَّة بسوريا، ويبدو أنه لن يتراجع عنها ما دام يترجم نياته تارةً بالأقوال، وتارةً أخرى بالأفعال، أي بإرسال نصف الجيش التركي إلى إدلب وشرق الفرات وغربه، وكأنها جزء من تركيا”.
الأمر نفسه أومأ إليه مندوب تركيا في الأمم المتحدة، فريدون سينيرلي أوغلو، وكان أحد مهندسي السياسة التركية في سوريا منذ بدايتها مع أحمد داوود أوغلو، إذ قال في اجتماع مجلس الأمن: “تركيا تحمي أكثر من 9 مليون سوري وترعى شؤونهم. هذا العدد أكثر من الَّذين يعيشون في مناطق النظام”.
أقوال سينيرلي أوغلو تعزّز وجهة النظر الرسمية التي ترى في الشمال السوري جزءاً من تركيا التي يعيش فيها نحو 3.5 مليون سوري. وفي هذه الحالة، يعيش 5.5 ملايين أيضاً في المناطق التي يتواجد فيها الجيش التركي من عفرين إلى تل أبيض.
ويتواجد في هذه المناطق أيضاً عشرات الآلاف من المسلّحين “المعتدلين” الذين قالت أنقرة إنها دعمتهم في النيرب وسراقب. ويعرف الجميع أنّ المسلّحين الموجودين في إدلب إرهابيون بمختلف انتماءاتهم التنظيميّة التي تقول المعارضة إنها لا تختلف أساساً عن الفصائل الأخرى الموالية لتركيا، المنضوية تحت راية ما يُسمى بالجيش الوطني السوري، وهو شبه فرقة تابعة للجيش التركي مباشرة.
يأتي كلّ ذلك مع استمرار المساعي التي يبذلها إردوغان لإقناع الرئيس الأميركي دونالد ترامب وحلف الأطلسي للاستفادة من هؤلاء، بعد الإعلان عن حظر جوي شمال سوريا، وإقامة منطقة آمنة بعمق 30-35 كم، بحجة حماية النازحين من إدلب.
ولم يلقَ اقتراح إردوغان، على الأقل حتى الآن، ترحيباً من الغرب، الَّذي سبق له أن تهرّب من مثل هذه الاستفزازات ضد روسيا التي سمحت للقوات التركية بدخول الشمال السوري من عفرين إلى تل أبيض، بطول 500 كم، وعمق يصل أحياناً إلى 70 كم.
ويبقى الرهان الأكبر، بعد أن كشفت أنقرة عن نياتها وحساباتها المستقبلية في سوريا، على موقف الرئيس بوتين، الذي يرى الإعلام الروسي أنه لن يتسامح هذه المرة مع الرئيس إردوغان، بعد أن استهدفت قوّاته طائرةSU -24 التي عرقلت تقدّم الجيش التركي في النيرب وسراقب.
وكاد ذلك أن يؤدي إلى أزمة جديدة في العلاقات التركية- الروسية، كتلك التي عاشتها بعد إسقاط الطائرات التركية طائرة روسية في 24 تشرين الثاني/نوفمبر 2015.
وكان ردّ فعل موسكو آنذاك عنيفاً، فعلّقت كلّ أنواع التعامل مع أنقرة، باستثناء تصدير الغاز إليها، ما خلق لتركيا الكثير من المشاكل الاقتصادية والمالية، أهمها في قطاع السياحة، بعد أن ألغى حوالى 6 ملايين روسي رحلاتهم إلى تركيا (هذا الرقم أصبح الآن 7 ملايين).
وعادت الأمور إلى وضعها الطبيعي بعد أن اعتذر إردوغان رسمياً من بوتين في حزيران/يونيو 2016، ليكون ذلك بداية لعلاقات جديدة ومميّزة بين الطرفين، وفيها الكثير من الخفايا والأسرار، نظراً إلى انعكاساتها على سوريا.
ويرى البعض في كلّ التطورات الأخيرة “مهارة” إردوغان الجديدة لترسيخ تواجده العسكريّ الكبير في إدلب هذه المرة، كما فعل بعد توترات مماثلة في عفرين وشرق الفرات، وسط المعلومات التي تتوقَّع للقمّة الرباعيّة القادمة أن تعلن عن تهدئة، ربما دائمة، في إدلب، قد يقبل بها الرئيس بوتين، مع بقاء القوات السورية، ومعها التركية، في مواقعها الحالية.
يأتي ذلك مع الاتفاق على آليَّة مدعومة من ألمانيا وفرنسا لنزع سلاح “النصرة” وضمّ مسلّحيها إلى الجيش الوطني السوري، وهو ما سيكون انتصاراً للرئيس إردوغان، ولكن المعارضة تستبعد أن يسحب قواته من سوريا ويتراجع عن مشروعه العقائدي الاستراتيجي والتاريخي في المنطقة، ما دام يعتقد أنَّ المعطيات، بما فيها الداخلية، ما زالت لصالحه على المدى القصير والمتوسط.
ويرى إردوغان في الوضع السّوريّ والعراقيّ واللبنانيّ والمخطَّطات الأميركيَّة ضد إيران، مع استمرار تآمر الكثير من الأنظمة العربية على سوريا، فرصته لتحقيق ما يهدف إليه إقليمياً ودولياً، وهو يستغلّ موقف الأنظمة العربّية التي تهاجمه باستمرار، ولكنَّها تفرح أكثر كلَّما تدخَّل في سوريا ضد الرئيس الأسد، وكأنَّ مقولة: “أنا وأخي على ابن عمي، وأنا وابن عمي على الغريب”، أصبحت معاكسة، ليتّفق “التركي” إردوغان بشكل غير مباشر مع سلاطين العرب وملوكهم وأمرائهم ورؤسائهم ضدّ أخيهم العربي الأسد، الذي كان ذات يوم أخاً لإردوغان أيضاً!
الميادين نت