تركيا وروسيا.. هل من حرب جديدة؟!
مع التطورات الساخنة في أوكرانيا وانعكاساتها المحتملة على علاقة تركيا بكل من موسكو وواشنطن، وهو ما تحدثتُ عنه في أكثر من مقال خلال الأشهر الماضية، طلب الرئيس الأميركي جو بايدن من الكونغرس 715 مليار دولار لمواجهة التهديدات الروسية والصينية، في الوقت الذي أعلن البنتاغون أنه سيرسل سفينتين حربيتين إلى البحر الأسود، مع التأكيد على الاحتفاظ بهذه السفن وغيرها في المنطقة بسبب الأزمة الأوكرانية، وهو ما يتناقض مع اتفاقية “مونترو” للعام 1936، والتي تمنع بقاء سفن الدول غير المطلة على البحر المذكور في المنطقة أكثر من 3 أسابيع.
لم يتأخر الرئيس الروسي فلاديمير بوتين في الاتصال (أمس الجمعة) بالرئيس إردوغان، ليؤكد له “ضرورة الالتزام بالاتفاقية المذكورة”، ويشمل الحديث، وفق بيان الكرملين، “مجمل القضايا التي تهم الدولتين، وفي مقدمتها سوريا وليبيا وناغورنو كاراباخ”، ما يعني أن الحديث بين بوتين وإردوغان كان ساخناً جداً!
وجاءت زيارة الرئيس الأوكراني زيلانسكي (يهودي الأصل وعلاقاته بإردوغان مميزة) المفاجئة إلى أنقرة، اليوم السبت، لتثبت مدى أهمية الدور التركي في مجمل تطورات البحر الأسود ومضيقي البوسفور والدردنيل التركيين، فقد كان هذان المضيقان تحت السيادة العثمانية المطلقة منذ فتح إسطنبول في العام 1453 وحتى العام 1809 مع بداية عهد انحطاط الدولة العثمانية. وبعد هذا التاريخ، اضطرت إسطنبول إلى التوقيع على اتفاقيات ثنائية مع العديد من الدول، بما فيها روسيا، لتقنين شروط الملاحة عبرهما.
وقد فقدت الدولة العثمانية حق السيادة عليهما بعد معاهدة لندن للعام 1841، لينتهي الوضع بانهيار الدولة العثمانية واحتلال الدول المنتصرة في الحرب العالمية الأولى، وهي بريطانيا وفرنسا وإيطاليا واليونان وروسيا، معظم الأراضي التركية الحالية، وفرض سيطرتها على المضيقين اللذين كانا من أهم أسباب تورط الدولة العثمانية في الحرب، فقد وقعت إسطنبول في 2 آب/أغسطس 1914 على اتفاقية تحالف سرية مع برلين، تعهدت بموجبها بالوقوف إلى جانب ألمانيا في حال أعلنت الحرب ضد روسيا.
وبعد 3 أشهر من هذه الاتفاقية، قامت الدولة العثمانية بإرسال سفينتي يافوز وميديللي اللتين اشترتهما من ألمانيا إلى البحر الأسود، ومعهما قطع من الأسطول الحربي، وقامت بدءاً من 29 تشرين الأول/أكتوبر 1914 بقصف العديد من المواقع الروسية في شمال البحر الأسود ومعظم المدن والمواقع العسكرية والموانئ التجارية في نوفوروسيسك وسيفاستوبول وأوديسا وشبه جزيرة القرم ومضيق كيرتش الذي يربط بين بحر أزوف والأسود، وهي جميعاً الآن مواقع استراتيجية في التوتر الروسي – الأوكراني.
لم تتأخر ألمانيا في دعم السفن العثمانية، فأرسلت عدداً من غواصاتها إلى البحر الأسود، ولكن ليس بحراً، بل براً، وتم نقل قطع هذه الغواصات من ألمانيا إلى رومانيا، ليتم جمعها في ميناء كوستنجة الروماني، الذي كان مقراً لهذه الغواصات التي ألحقت أضراراً بالغة بالسفن الحربية الروسية.
وجاء الرد سريعاً من روسيا التي شنت هجمات برية شاملة مدعومة بتحركات بحرية، انتهت في نهاية المطاف بتدمير الغواصات الألمانية ومعظم قطع الأسطول العثماني في البحر الأسود، وتبع ذلك احتلال الروس لجميع المدن التركية المطلة على البحر الأسود وصولاً إلى مضيق البوسفور.
ومع هزيمة الدولة العثمانية وحليفتها ألمانيا، تم وضع مضيقي البوسفور والدردنيل في اتفاقية موندروس تحت وصاية الدول المنتصرة، إلى أن تم التوقيع على اتفاقية لوزان للعام 1923، والتي اعترفت بموجبها الدول الغربية باستقلال الجمهورية التركية الحديثة. وكانت قضية المضائق جزءاً من هذا الاتفاقية التي اعترفت بسيادة تركيا عليها، مع ضمان حرية الملاحة التجارية والعسكرية لجميع الدول، وفق شروط تحددها لجنة دولية تم تشكيلها لهذا الغرض.
وجاءت اتفاقية “مونترو” للعام 1936 لتؤكد حق السيادة التركية المطلقة على المضيقين، مع ضمان حرية المرور لكل السفن التجارية، ووفق شروط محددة بالنسبة إلى السفن الحربية التي لا يمكنها أن تمر منهما والبقاء في البحر الأسود أكثر من 3 أسابيع، ما لم تكن ملكاً لإحدى الدول المطلة على البحر المذكور.
كما تعترف الاتفاقية لتركيا بحق إغلاق المضيقين في حال نشوب أي حرب بين الدول المطلة على البحر الأسود ودول أخرى، وهو الشرط الذي يبدو أنه سبب الأزمة الحالية والنقاش المستمر حول قناة إسطنبول التي ستربط البحر الأسود ببحر مرمرة، وبشكل موازٍ لمضيق البوسفور.
وترى موسكو في هذه القناة (وقد تكون هناك قناة ثانية تربط البحر الأسود ببحر إيجة) محاولة تركية للالتفاف على اتفاقية “مونترو”، حتى يتسنى للسفن الأميركية دخول البحر الأسود متى تشاء، وبأي شكل، بعيداً من شروط اتفاقية “مونترو”.
وقد كانت سبباً لنقاش ساخن داخلياً بعد البيان الذي وقع عليه 104 أميرال متقاعد، عبروا فيه “عن قلقهم من مشروع قناة إسطنبول”، وقالت عنه المعارضة “إنه محاولة من الرئيس إردوغان للتودد إلى واشنطن التي اقترحت إنشاء هذا الممر المائي في العام 2006، خلال لقاء كوندوليزا رايس وزير الخارجية آنذاك عبد الله جول”.
وقد وصف الأميرال المتقاعد سميح شاتين بيان الأميرالات بأنه “مسرحية سياسية أراد إردوغان أن يستغلها في حساباته مع روسيا وأميركا”، وقال: “لقد كان من بين الأميرالات الذين وقعوا على البيان مندسون متعاونون مع إردوغان، وقاموا بتغيير عنوان البيان وتسريبه قبل يومين من موعده المقرر، بعد الاتفاق مسبقاً مع أحد الوزراء حول مضمونه”.
ولم ينسَ الأميرالات، وقبلهم 126 دبلوماسياً متقاعداً و98 عضو برلمان سابقين، “تذكير الرئيس إردوغان بدروس الماضي في ما يتعلق بمغامرات البحر الأسود والعداء للاتحاد السوفياتي. ولولاها، لما استطاع مصطفى كمال أتاتورك أن ينتصر على الدول الاستعمارية خلال حرب الاستقلال للفترة الممتدة بين العامين 1919 – 1923”.
وقد قدم لينين خلال هذه الحرب دعماً كبيراً لأتاتورك، وهو ما لم يكن كافياً لضمان صداقة تركيا التي لم تتأخر في الانضمام إلى التحالف الغربي بعد الحرب العالمية الثانية، رغم أنها كانت على الحياد خلالها. وكان هذا الحياد سبباً كافياً بالنسبة إلى أنقرة التي رفضت في العام 1941 طلباً من برلين، التي أرادت إرسال 6 من غواصاتها إلى البحر الأسود للانتقام من الروس على خلفية ما فعلوه بسفنها في الحرب العالمية الأولى.
وكان هذا الرفض التركي وتحجج أنقرة من أجله باتفاقية “مونترو” سبباً كافياً بالنسبة إلى برلين التي نقلت قطع الغواصات المذكورة براً من هامبورغ إلى ميناء كوستانجا في رومانيا، كما فعلت في الحرب العالمية الأولى، إذ تم جمعها وإنزالها في البحر الأسود. وقد قامت بـ56 عملية كبيرة ضد الأهداف الروسية للفترة الممتدة بين العامين 1942 – 1944، وهو ما أدى إلى تدمير عشرات السفن الحربية والتجارية الروسية.
وبإعلان رومانيا الحرب على ألمانيا، استطاعت السفن الروسية تدمير 3 غواصات، فيما اضطر قائد الأسطول الألماني إلى إصدار أوامره لطواقمها بمغادرتها قبل تفجيرها، بعد أن رفضت تركيا السماح لها بالمرور من البوسفور والدردنيل، حتى تصل إلى اليونان التي كانت آنذاك تحت الاحتلال الألماني.
يقول كاتب النشيد الوطني التركي محمد عاكف: “يقولون عن التاريخ إنه يكرر نفسه، فلو استخلصت الدروس منه، لما كرر نفسه”. لذا، السؤال هنا: هل ستُستخلص الدروس من حكايات البحر الأسود لمئة سنة ماضية فقط، من دون العودة إلى تاريخ العلاقات الروسية – العثمانية التي شهدت 16 حرباً طاحنة بين الطرفين، معظمها في البحر الأسود، والتي انتصر الروس في 11 حرباً منها؟ ومن سيستخلص هذه الدروس؟
وكان هذا العداء التاريخي بين الأتراك وروسيا، ولاحقاً الاتحاد السوفياتي، سبباً رئيسياً لانضمام تركيا إلى الحلف الأطلسي والسماح لأميركا بإقامة العشرات من القواعد البحرية والبرية والجوية بقنابلها النووية في أراضيها، بعد أن جعلت منها واشنطن مخفراً أمامياً للدفاع عن الغرب الرأسمالي ومنع “الدب الروسي الشيوعي من النزول إلى المياه الدافئة”.
يبقى الرهان، وربما الأخير، على حسابات الرئيس إردوغان الذي تتهمه أحزاب المعارضة “بتوريط تركيا في مغامرات جديدة تختلف كثيراً عن تلك التي تعانيها في سوريا وليبيا والصومال والعراق وشرق الأبيض المتوسط ومناطق أخرى”، فطرفا المغامرة هذه المرة دولتان عظميان، والعداء بينهما يتجاوز حسابات إردوغان. هذا بالطبع إن لم يفكر في استغلال هذا العداء بأساليبه الخاصة، وإلا ما عليه إلا أن يستخلص الدروس من صفحات التاريخ، وأن يحسب ألف حساب للدب الروسي، الذي يقال عنه إنه لا يستيقظ من سباته العميق، مهما فعلت معه، ولكن إذا استيقظ وخرج من مغارته، فلن يهدأ ويعود إلى نومه إلا بعد أن يضمن عدم إزعاجه بعد الآن”.
أما كلام الرئيس الأسبق عصمت إينونو خلال أزمة تركيا مع واشنطن في موضوع قبرص في العام 1964، فقد يكون أكثر تعبيراً، إذ قال: “إن العلاقة مع الدول الكبرى شبيهة بالنوم في فراش واحد جنباً إلى جنب مع الدب؛ فعيناك يجب أن تبقيا مفتوحتين دائماً، وإلا!”.