تفجير كيرتش… هل يُخرِج الروس عن توازنهم في المواجهة؟
يمكن القول إن كل المعطيات والأسباب، التي يمكن أن تجعل الروس يعدلون من مستوى وطريقة خوضهم الحرب في أوكرانيا، قد اكتملت أو تحققت، من دعم الغرب الأطلسي للوحدات الأوكرانية بأسلحة متطورة وفتاكة أو بمعلومات حساسة، إلى تطوير عناصر المعركة الهجومية لهذه الوحدات بدعم غربي واضح أيضاً، إلى تحقيقها تقدماً ميدانياً مؤثراً وفي أكثر من منطقة، شرق أوكرانيا أو جنوبها، وخاصة في المناطق التي انضمت إلى موسكو مؤخراً، وأصبحت في مفهومها أرضاً روسية، في لوغانسك ودونيتسك وزاباروجيا وخيرسون أيضاً، وليكتمل مؤخراً هذا المسار من الضغوط الحساسة على روسيا وعلى الرئيس بوتين شخصياً، بتفجير جسر كيرتش بشاحنة مفخخة، الأمر الذي يجعل أغلب المتابعين يذهبون باتجاه انتظار مؤكد لإجراءات روسية استثنائية وغير تقليدية.
بداية، يشكل جسر ومعبر كيرتش نقطة استراتيجية مهمة للروس، لناحية الترابط الجغرافي والمروري بين الأراضي الروسية شرقاً في مقاطعة كرسنودار وبين شبه جزيرة القرم غرباً، ويعدّ المدخل البحري الوحيد الفاصل بين البحر الأسود وبحر آزوف، والذي أصبح اليوم عملياً، بحراً داخلياً روسياً، بعد أن كان بمنزلة نقطة ضغط بحرية على الروس من قبل “الناتو”. وبالإضافة إلى هذه الميزات، أصبح جسر كيرتش يشكل اليوم طريق الإمداد اللوجستي والعسكري الاستثنائي للوحدات الروسية، ليس في جزيرة القرم فحسب، بل في كامل جبهات المواجهة الروسية-الأوكرانية في خيرسون وزاباروجيا وميكولايف وأوديسا.
انطلاقاً من هذه الأهمية الاستراتيجية لمعبر وجسر كيرتش، يبني الكثيرون اليوم، في داخل روسيا وفي خارجها، استنتاجاتهم ” المؤكدة” بنظرهم، بشأن حتمية اتخاذ الروس قرارات استثنائية تكون على مستوى استهداف هذا الجسر أو تفجيره.
فكيف يمكن أن تكون هذه الإجراءات، وهل يذهب الروس باتجاه اتخاذ قرارات استثنائية من خارج مناورتهم المدروسة والمحددة تبعاً لما وضعوه من مخطط لعمليتهم العسكرية الخاصة في أوكرانيا ولتطوراتها المنتظرة؟
لناحية تطوير مستوى الأسلحة الروسية، نحو استعمال السلاح النووي التكتيكي، هذا إذا استبعدنا طبعاً وبشكل أكيد، استعمال النووي الاستراتيجي أو أسلحة الدمار الشامل، يبقى هذا التطور( استعمال النووي التكتيكي ) أيضاً مستبعداً وبنسبة كبيرة جداً، على الأقل هو لن يحصل الآن على خلفية تفجير جسر كيرتش، كذلك لم يحصل على خلفية التقدم الأوكراني الميداني مؤخراً في أكثر من جبهة، ومعايير استعماله من قبل الروس، تبقى خاضعة لمعايير العقيدة النووية الروسية وبنودها، وتفجير الجسر على أهميته، يبقى عملاً إرهابياً لا يختلف كثيراً في مفاعيله، عن الكثير من العمليات الإرهابية التي تتعرض لها روسيا، في وسطها أو جنوبها أو في شبه جزيرة القرم.
لناحية إمكانية تطوير معركة الروس نحو استهداف مراكز القرار والسلطة الأوكرانية، يبقى هذا الاحتمال مستبعداً أيضاً حالياً، حتى ولو كانت نسبة استعماله متقدمة كثيراً عن نسبة استعمال النووي التكتيكي، والسبب أيضاً يدخل ضمن اعتماد القيادة الروسية مناورة متوازنة، هي حتماً لن تتخطاها وتتجاوزها وتنجر إلى التصرف الانتقامي بردة فعل عشوائية وغير مدروسة، فاستهداف مراكز القرار والسلطة الأوكرانية سيكون مرحلة متقدمة ولاحقة، وهي طبعاً مدرجة ضمن بنود خطة المعركة أو العملية، ولكنها لن تحصل قبل استنفاد كل إمكانيات الحل السياسي أو المفاوضات والتسوية بالشروط الروسية، والتي ما زال الرئيس بوتين يأمل بخضوع الرئيس زيلينسكي لها، بمجرد أن يضعف ويفشل في الثبات في هذه المواجهة الصعبة ويطلب إنهاءها، أو بمجرد أن يظهر إلى العلن، التململ واليأس الغربي وخاصة الأوروبي، من إكمال هذه المواجهة المدمرة لهم قبل غيرهم.
من هنا، وأمام استبعاد اتخاذ الروس القرار باستعمال النووي التكتيكي أو استبعاد استهدافهم لمراكز القرار والسلطة الأوكرانية، ما زالوا يملكون عدة خيارات حاسمة، يمكن لهم من خلالها أن يتابعوا معركتهم بمواجهة الغرب الأطلسي وأوكرانيا بشكل ثابت وقوي وأكيد.
فهم اليوم يواجهون الغرب الأطلسي باتجاهين، الأول عسكري في أوكرانيا، والثاني اقتصادي في أغلب دول “الناتو” والاتحاد الأوروبي والولايات المتحدة الأميركية.
عسكرياً، خطتهم الموضوعة تسير على قدم وساق من دون أن تتأثر بتعثرات ميدانية من هنا أو هناك، وبمجرد اكتمال التعبئة الجزئية ووصول وحداتهم إلى العدد المناسب الذي يفوق 300 ألف عسكري مع كامل عتادهم، مع تقدم مناورة الاستنزاف التي يتبعونها حالياً ضد الوحدات الأوكرانية، في العديد وفي العتاد، سيكونون جاهزين لتنفيذ عمل عسكري واسع، على الأقل يستعيدون من خلاله كل المناطق الإدارية الأربع التي انضمت إليهم مؤخراً، مع إمكانية كبيرة لتوسيع سيطرتهم على كامل الساحل الأوكراني على البحر الأسود حتى أوديسا.
على صعيد معركتهم الاقتصادية بمواجهة الغرب الأطلسي، تتقدم نقاطهم بشكل جيد، فالصراخ الأوروبي يتعالى يوماً بعد يوم على خلفية الارتفاع الجنوني في أسعار الطاقة، وعلى خلفية بدء فقدانها في أغلب تلك الدول، وهذا الصراخ الأوروبي مزدوج، من الشعوب الأوروبية ضد حكوماتها التي انخرطت ضد روسيا في مواجهة فاشلة، وصراخ آخر من حكومات الدول الأوروبية بوجه الإدارة الأميركية، والتي أدخلتهم في هذه الورطة بمواجهة روسيا من جهة، وتستغل حاجتهم إلى الطاقة فتبيعها لهم بأسعار خيالية، من جهة أخرى.
وهكذا، ترى روسيا أن صبرها وثباتها في هذه المواجهة المزدوجة بدأا يفعلان فعلهما، ولن تذهب حتماً في أي إجراء متهور، ترى وبوضوح أنه سيخسرها ما ربحته حتى الآن أو ما تراه أصبح قريباً في جيبها.
الميادين نت