تقلّبات اللقاء السوري التركي المرتقب
أثار تسريب محضر اللقاء الذي تم بين بعض قيادات الائتلاف المعارض الذي تدعمه تركيا مع مندوب وزارة الخارجية التركية أسئلة متناقضة تجاه السياسات التركية المتبعة، ذات الدلالات والإشارات المتناقضة، التي يطلقها المسؤولون الأتراك، في ظل سيطرة الصمت على دمشق التي لم تطلق أيّ تصريح عما وصلت إليه المفاوضات الأمنية، بخلاف الجانب التركي الذي لم يتوقف عن تسريب المعلومات والأمنيات.
من الواضح أنَّ تداعيات الحرب في سوريا، وفِي أوكرانيا فيما بعد، تركت ارتباكاً واضحاً لدى الأطراف الإقليمية والدولية التي كانت في الأساس جزءاً مهماً لتنفيذ السياسات الأميركية، وخصوصاً بعدما ظهرت صلابة الاندفاعة الروسية المغطاة بعلاقات اقتصادية مع الصين والهند وإيران كسياسات بديلة من الشراكة مع الدول الغربية، ليغيب من موسكو مصطلح “شركاؤنا الغربيون”، ما دفع هذه الدول إلى إعادة حساباتها السياسية، وخصوصاً القيادة السياسية في تركيا.
استندت السياسة التركية بعد مجيء حزب “العدالة والتنمية” إلى السلطة عام 2002 إلى استثمار الموقع الجيوسياسي المهم لتركيا بين الشرق والغرب، والعمل على تحصيل أعلى مستوى من المكاسب السياسية والاقتصادية، لإعادة تمكينها من تحقيق حلمها التاريخي الإمبراطوري الذي استنزفها على مستوى الداخل التركي المتأزم اقتصادياً وسياسياً، وتداعياتهما الاجتماعية الضاغطة على توجهات الأتراك الانتخابية، فتحول الملف السوري إلى عبء كبير على تركيا كلها.
قد يكون الرئيس التركي إردوغان حقق إنجازات غير مسبوقة لتركيا حتى عام 2016، ولكن العجز عن إسقاط النظام السياسي في سوريا، بفعل مجموعة من العوامل السورية الداخلية المتشابكة والمعقدة التي ساندتها العوامل الخارجية بالوقوف الصلب لكل من إيران وروسيا مع خيارات دمشق، سرَّع في بروز القوى الآسيوية، في مقابل القوى الغربية التي تهيمن عليها الولايات المتحدة، إلى أن انتقل الصدام الكبير من الساحة السورية إلى الساحة الأوكرانية، التي تحولت إلى أهم مفصل في الصراع الدولي الكبير، مع تبريد الساحة السورية مؤقتاً، بانتظار عودة الصراع إليها بحدة.
وعلى الرغم من محاولات الرئيس التركي الاستمرار في استثمار الموقع الجيوسياسي لتركيا في الساحة الأوكرانية، من خلال مساعدة أوكرانيا بطائرات البيرقدار المسيرة، ودورها الفاعل في ساحة المواجهة ضد روسيا، أو باستمرار العلاقة الجيدة مع روسيا اقتصادياً، أو كوسيط مقبول بين موسكو وكييف، وبين الشرق والغرب، فإنه بدأ يدرك أن خيارات لعبة التوازن لا يمكنها الاستمرار، بفعل الإصرار الروسي على الانتصار، ولو كلَّف ذلك تدمير العالم، إضافةً إلى عدم ثقته بالغرب الذي انقلب عليه، بعد محاولة الانقلاب عليه عام 2016، مع المقارنة بين صلابة المحور الآسيوي للدول الناهضة (الصين وروسيا والهند وإيران)، في مقابل المحور الغربي الذي بدأت تظهر عليه تداعيات الحرب في أوكرانيا، بتضعضع أركانه المختلفة في الموقف من الحرب والعقوبات على روسيا، وما ترك ذلك من آثار وتهديدات اقتصادية تدفع ثمنها دول الاتحاد الأوروبي في الدرجة الأولى.
كلّ ذلك دفع الرئيس التركي إلى أن ينظر إلى الحرب في سوريا من زاوية الرؤية الآسيوية، وليس الغربية، وخصوصاً بعد الضغوط الروسية الإيرانية عليه في قمة طهران الثلاثية، والعمل على التخلص من عبء ملف اللاجئين السوريين الضاغط داخل تركيا، إضافة إلى المقاتلين الأجانب (إيغور وأوزبك وشيشان وغيرهم)، وأغلبهم من القوميات التركية.
وفي الوقت نفسه، فإنه لا يمكنه العودة إلى ما قبل عام 2011، عندما كانت العلاقات السورية التركية في أحسن أحوالها، ففي ذلك إعلان للهزيمة، وعنصر الزمن ضاغط عليه قبل الانتخابات الرئاسية، التي اجتمع عليه خصومه لهزيمته فيها، وما يعنيه ذلك من إمكانية محاكمته ومحاكمة كامل عهده المتهم بالفساد المالي والسياسي والأمني.
في هذه المرحلة التي تسبق الانتخابات التركية ونهاية الحرب في أوكرانيا، يجب على إردوغان أن يتجاوز مرحلة الأشهر القادمة بمزيد من التعاون الأمني مع روسيا وسوريا، مع الإيحاء بالعمل الجدّي على إخراج اللاجئين السوريين من تركيا، مع الإصرار على عدم فقدان ورقة المعارضة السورية “الائتلاف”، وتأهيل هيئة تحرير الشام “جبهة النصرة” خلال المرحلة المتبقية، لتكون بديلاً للمعارضة التي تهيمن عليها حركة الإخوان المسلمين، مع الإصرار على بناء مستوطنات الطوب في الشمال السوري، لتكون منطقة نفوذ تركية يمكنها المطالبة بالانضمام إليها بعد بضع سنوات.
تتباين الأولويات بين كل من دمشق وأنقرة حول إدلب وعفرين وجرابلس وتل أبيض ورأس العين، التي تطالب دمشق بسحب القوات التركية منها، فيما تريد أنقرة من دمشق وحلفائها التخلص من الأوجلانيين الكرد أولاً، الذين تنظر إليهم دمشق بعنوان الانفصاليين، وليس الإرهابيين، وهم يشكلون رصيداً لها، فإنَّ التعاون الأمني هو الأولوية في النقاط المشتركة، وأهمها التخلص من المقاتلين الأجانب والقادة الرافضين أي تقارب سوري تركي سيكون على حسابهم، وهذا ما أظهرته أنقرة من تعاون إيجابي في العمليات الناجحة للطيران الروسي والسوري خلال الشهرين الماضيين.
والأمر الآخر هو عودة النازحين من ريف إدلب الجنوبي والشرقي وريف حماه الشمالي المحررين على يد الجيش السوري وحلفائه. وقد أظهرت تعاونها بتسهيل افتتاح 3 معابر لعودة سكان هذه المناطق إلى بيوتهم وأراضيهم الزراعية، مع مباشرة هيئة تحرير الشام رفع الحواجز بين معبر ترنبة وسرمين، وبين أريحا وسراقب.
وتبقى المسائل الخلافية الصعبة الحلّ في هذا الزمن، وهي تحتاج إلى زمن ليس قليلاً حتى يتم الاتفاق، الذي لا يمكن أن يستند إلى معادلة رابح-رابح، ففي ذلك خسارة لسوريا. ولا يمكن أن تتحقق هذه المعادلة إلا بعد انسحاب كل القوات التركية والأميركية من الشمال السوري المحتل، وبعد الانتقال إلى إطار من الاتفاق المبني على مصالح شعوب المنطقة ككل.
هذا الأمر يتطلب انتظار نتائج الانتخابات الرئاسية التركية في المرحلة الأولى، ونتائج الحرب في أوكرانيا، التي ستدفع أنقرة إلى خسارة لعبة التوازن بين الغرب والشرق وتحديد اصطفافها النهائي، بما ينعكس على مستقبل سوريا الذي سيكون غالباً متعلقاً بالمحور الآسيوي الصاعد.
ميدل إيست أونلاين