كتب

تقنيات الحذف والإضمار أحد نجاحات كونراد في ‘الشريك الخفي’

محمد الحمامصي

لا شيء يقال في رواية الكاتب البريطاني البولندي الأصل، وعند القراءة فقط نكتشف أن القصة، كما عند ملفيل، ذات غنى رمزي كبير.

 

تعد رواية “الشريك الخفي” إحدى المعالم البارزة في مسيرة الروائي البريطاني – البولندي الأصل جوزيف كونراد، المليئة بالرمز، مثلما هي مليئة بوعي هذا العالم “الواقعي” المعقد. ومن خلال هذه المغامرة، يعود كونراد ليطرح مجدداً مسألة القرين والإحساس بالذنب، وهما من الموضوعات الحاضرة دائماً في جميع رواياته المهمة، إذ إنهما يشكلان لحمة السرد، ومداميك عمارته الفنية التي جعلته أحد أبرز روائيي العالم.

تدور أحداث الرواية التي ترجمها وقدم لها الشاعر والمترجم اسكندر حبش وصدرت عن دار دلمون الجديدة السورية، فوق سفينته الراسية في خليج سيام، يستقبل القيطان رجلاً عارياً. ظهر من بين المياه قجأة، فيخبئه في قمرته. وحده فقط، كان يعرف أن هذا الرجل ارتكب قتل. ووحده فقط، يتيح له فرصة النجاة والهروب.

تأتي مقدمة حبش كدراسة حول كونراد وحكاية “القرين” في أعماله الروائية حيث يلفت إلى أن كونراد قبل عامين من كتابته “الشريك الخفي” كان كونراد يشكو من الآراء النمطية التي يستعملها النقاد لوصف عمله “أتمنى ألا أ[دو لكم كثير الإعجاب بنفسي فيما لو جعلتكم تلاحظون، أنه بعد اثنتين وعشرين سنة من العمل ـ في الكتابة ـ أجد أنكم لم تفهموني بعد كما يجب، قيل إنني كاتب البحر، كاتب المدارات، كاتب توصيفي، كاتب رومنطيقي، ربما أنني أيضا، كاتب واقعي..”. في واقع الأمر لم يكن كونراد يشكو من تفنيدهم هذه المقولات ـ فعمله الأدبي يشير إلى ذلك كله بوضوح ـ وإنما كان يشكو ـ في العمق ـ من أن الجميع كانوا يرفضون نعته بـ “سيد” الرمز والكلمة “الصائبة” مثلما كانوا يرفضون اعتباره أحد كبار كتاب بداية عصرنا هذا، الدليل على ذلك، هذه القصة الطويلة: “الشريك الخفي”، التي يقدم فيها “بورتريه” لرجل يلقي القبض عليه، في اللحظة، التي يظهر فيها قرينه أمامه. إنها قصة هذه الأيام القليلة من الحياة المشتركة بينهما، هذه الحياة السرية ومن ثم رحيل هذا الشريك عنه.

ويضيف “لو عدنا قليلا إلى أدب كونراد لوجدنا أن موضوعي “القرين” و”الذنب”، كانا من الموضوعات المتكررة في كتب كونراد “الكبيرة”، مثل روايات “لورد جيم”، و”قلب الظلمات”، و”نوسترومو”، و”العميل السري”، و”زنجي نرسيس”. وفي ما يخص الشريك الخفي ـ ويحسب ما يقول “غافان يونغ” في كتابة “أشباح كونراد” ـ فإن الروائي “استوحى قصته هذه من حادثة حقيقية، وهي جريمة قتل نفذها نائب ربان سفينة “كاتي ـ سارك” العام 1880 وذهب ضحيتها أحد البحارة، بيد أن كونراد، في كتابه هذا، يقلل من إحساس نائبه ـ ويدعى ليغات ـ بعقدة الذنب. صحيح أن هذا الأخير، لم يستطع القيام بواجباته كضابط، ولم يعد يرى نفسه يضطلع بأي مسؤولية. إذ لم ينقذ حتى سفينته، كما أن المجرم وقع على القبطان الذي استقبل ليغات، ما سمح له بالهروب، والحال كذلك، فإنه قد وضع موضع موضع الخطر ـ ليس السفينة فقط ـ وإنما أيضا حياة الطاقم بأسره (في القصة الحقيقة، انتحر القبطان بعد أن غطى هروبه نائبه، الذي حكم عليه فيما بعد بالسجن لمدة 7 سنوات).

ويشير حبش إلى أن كونراد في روايته “لورد جيم” كما في روايتي “قلب الظلمات” و”العميل السري”، ثمة استعمالات سابقة لثيمة القرين، إذ لم يستطع كونراد ـ يومها ـ إيجاد حل لمشكلة الإنسان مع قرينه. فالابهام الذي يفترضه عادة، تقابل “هذين الشخصين”، حين يسمح القبطان لقرينه بالرحيل كي “يتوه في الأرض”، فإنه بذلك، يتخلص منه، كي يستطيع في النهاية، تخصيص نفسه، بمهمته الحقيقية: “أجل.. لا شيئ، ولا أحد أبدا يمكنه بعد الآن الوقوف بني وبينها ـ (القبطان وسفينته) ـ ليلقي ظلالا في الحميمية ـ بأتم صورة لها ـ التي تربط رجل البحر بأول سفينة يتولى قيادتها”.. وتشاء الصدف أن تكون الكتب اللاحقة لهذه القصة، أقل غنى، إذ ينقصها هذا التشاؤم الذي كان يغلف الروايات، التي ذكرناها سابقا. كما لو أن كونراد، استطاع أخيرا، أن يرمي في البحر هذا الإحساس بالخطيئة والشك.

ويوضح أن رواية “الشريك الخفي” تتبع خطا أدبيا نجد منبعه عند كلفيل، كما في روايات بينيتو سيرينو، وبارتلبي، وبيلي بود، وهو خط نعود لنجده في رواية فلاديمير نابوكوف “الاحتقار”. وكما عند ديكنز، فإن الشخصيات الثانوية، تبدو موصوفة هنا، بواسطة بعض الخطوط الساخرة، التي تكفي لصناعة “بورتريه” ما. ثمة خط مواز آخر، تستطيع تبيانه بين كونراد ونابوكوف في “الشريك الخفي” يرى القبطان في “ليغات” قرينا، نسخة طبق الأصل عنه، يقول “بدا الأمر في الليل، كما لو كنت أواجه تأملاتي في أعماق مرآة معتمة وهائلة..”. أما في “الاحتقار” فيقول نابوكوف على لسان هرمان، بطل الرواية وهو يرى أحد المتشردين بدا لي كأنه قريني، أي مثل كائن يطابق شكله شكلي”. هذان القرينان، لا ينتبهان أبدا إلى هذا الشبه، لذلك نعلم بعد فترة أنه غير موجود تقريبا إلا عند القبطان وعند هرمان: ‘ذ إنهما ـ هما الاثنين ـ في حاجة إلى أن يلبسا قرينهما، كل ثيابه، كي يحدثا هذا التشابه”.

قد تكون أحد نجاحات كونراد في “الشريك الخفي” استعماله لتقنيات الحذف والإضمار. إذ لا شيء يقال، وعند القراءة فقط، نكتشف أن القصة – كما عند ملفيل – ذات غنى رمزي كبير. فليغات يتسرب إلى الباخرة، مثلما تسرب يونسإلى داخل الحوت، ومثلما بصق الحوت يونس فإن الباخرة بصقت ليغات.

فقبطان الباخرة “سيفورا” يمثل رجل القانون أي أنه السلطة، سلطة الرسالة، إذ يمثل أيضا “لوحتي الشرائع (سيفورا أو صفورة وفي التوراة كانت صفورة زوجة النبي موسى). هناك أيضا توصيف الإطار الذي يدور فيه هذا اللقاء بين القرينين: إنها تلك الخشبة شبه العارية، حيث ينتشر الهدوء والبحر الأخضر، وفي هذه اللحظة التي يحس فيها القبطان بأنه غريب على السفينة: “بينما راحت كتلة اكو ـ رنج القاتمة تشمخ فوق أعلى مؤخرتها مثل بداية الليل الأبدي…”.

ميدل إيست أونلاين

 

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى