
الجزء الثاني
إذا كانت العوامل الداخلية تمثل الحاضنة التي تجعل الحرب الأهلية ممكنة، فإن القوى الخارجية تمثل اليد الخفية التي تدفع بها إلى الاشتعال أو تعيق الوصول إلى تسوية. فالشرق الأوسط، بموقعه الجغرافي الاستراتيجي وثرواته الطبيعية الهائلة، لم يكن يومًا بعيدًا عن أعين القوى الكبرى، التي ترى في صراعاته فرصة لتعزيز النفوذ، وإضعاف الخصوم، وتأمين المصالح.
منذ نهاية الحرب العالمية الثانية، وخاصة بعد انهيار الاتحاد السوفيتي، تبنت الولايات المتحدة سياسة خارجية تهدف إلى إعادة تشكيل الشرق الأوسط وفق ما يخدم مصالحها السياسية والاقتصادية والأمنية، تحت شعارات من قبيل “نشر الديمقراطية” و”محاربة الإرهاب”. لكن النتائج على الأرض كانت عكس ذلك تمامًا.
اجتياح العراق عام 2003 يُعد نموذجًا صريحًا على كيفية تدمير دولة بكاملها تحت ذريعة امتلاك أسلحة دمار شامل (ثبت لاحقًا أنها غير موجودة)، مما أدى إلى انهيار مؤسسات الدولة، وفتح الباب واسعًا أمام الطائفية والتطرف، وتمهيد الطريق لحرب أهلية دامية استمرت سنوات، وخلّفت مئات الآلاف من الضحايا.
الولايات المتحدة كذلك دعمت أطرافًا مسلحة في سوريا تحت شعار “الثورة”، لكنها في الوقت نفسه تركت المجال لروسيا وإيران لتعميق الصراع، مما حوّل البلاد إلى ساحة صراع دولي وإقليمي متعدد الأطراف، جُعل فيه الشعب السوري مجرد ضحية.
مع تدخلها العسكري المباشر في سوريا عام 2015، أعلنت روسيا عودتها القوية إلى معادلة الشرق الأوسط. ومع أن تدخلها جاء بطلب من النظام السوري وبذريعة محاربة الإرهاب، فإن هدفه الحقيقي كان حماية حليف استراتيجي، وتأمين قواعد بحرية على المتوسط، وتثبيت موقع جيوسياسي في المنطقة.
روسيا لم تُفرق كثيرًا بين المعارضة المدنية والجماعات المتطرفة، واستهدفت بضرباتها مناطق مدنية بأكملها، ما ساهم في تعقيد الأزمة وتحويلها إلى صراع طويل الأمد يصعب حلّه. هذا التدخل جعل من الحرب الأهلية السورية حربًا دولية على أرض محلية.
فدول الاتحاد الأوروبي، رغم خطابها الليبرالي، لم تكن خارج معادلة المصالح. ففي ليبيا، لعبت فرنسا دورًا في إسقاط نظام القذافي، لكنها انسحبت بعد ذلك تاركة البلاد في فوضى أمنية وحرب أهلية بين الميليشيات. أما في اليمن، فقدمت بعض الدول الأوروبية دعمًا لوجستيًا وتقنيًا لدول التحالف بقيادة السعودية، رغم الكارثة الإنسانية التي شهدتها البلاد.
وبينما تدّعي أوروبا دعم الديمقراطية وحقوق الإنسان، فإنها تغضّ الطرف عن أنظمة استبدادية تزودها بالطاقة أو تمنع عنها موجات الهجرة، وهو ما يجعل موقفها ملتبسًا ومصلحيًا أكثر منه إنسانيًا.
واسرائيل رغم ادعاءها بأنها لا تتدخل بشكل مباشر في معظم الحروب الأهلية العربية، فإن إسرائيل تظل أحد المستفيدين الأساسيين من حالة الفوضى الإقليمية. فضعف الجيوش العربية، وانهيار الدول المركزية (مثل العراق وسوريا)، وتحول الانتباه العربي من الصراع العربي الإسرائيلي إلى النزاعات الداخلية، كلها عوامل تصب في مصلحة إسرائيل.
كما أن بعض التحليلات تشير إلى أن تل أبيب تدعم بطرق غير مباشرة حالة الانقسام في بعض الدول، أو تتعاون استخباراتيًا مع قوى دولية لتعزيز استمرار النزاعات، طالما أن نتيجتها تصب في إضعاف أعدائها التقليديين.
اما بخصوص الثروات الطبيعية والتي تُعد المحرك الخفي لكثير من التدخلات الأجنبية. ففي العراق، كان النفط أحد أهم دوافع الغزو الأمريكي، حيث سيطرت شركات أمريكية على عقود استخراج وتصدير لسنوات. في ليبيا، الصراع على الحقول النفطية ما زال أحد المحاور الأساسية للحرب.
وفي سوريا، تُسيطر قوات مدعومة أمريكيًا على مناطق غنية بالنفط في الشرق، وسط تنافس إقليمي ودولي على السيطرة عليها.
حتى في اليمن، تلعب الموانئ والموقع الجغرافي الاستراتيجي على باب المندب دورًا مهمًا في إطالة أمد الحرب، لأن السيطرة على هذه المناطق تعني نفوذًا على خطوط التجارة العالمية.
وفي معظم الحالات، لم تبقَ الحروب الأهلية في الشرق الأوسط محلية الطابع. تدخلت فيها قوى دولية، وتصارعت فيها أجندات متضادة، واستخدمت فيها كل أدوات الحرب الحديثة: الطائرات المسيّرة، الحصار الاقتصادي، الإعلام الموجّه، والجيوش غير النظامية. وبذلك، لم تعد الحرب وسيلة لتحقيق مطالب داخلية، بل باتت جزءًا من لعبة أمم كبرى، حيث تُستخدم الشعوب أدوات، وتُنهك المجتمعات، وتُستنزف الموارد.
في المحصلة، فإن القوى الكبرى لا تسعى بالضرورة إلى إطفاء الحروب، بل أحيانًا تسعى إلى إدارتها وإطالتها، طالما أنها تحقق توازنات مصالح، وتبقي الخصوم في حالة إنهاك دائم. وهنا تصبح الحروب الأهلية في الشرق الأوسط أكثر من مجرد نزاعات محلية، بل جزءًا من منظومة دولية تُعيد إنتاج الهيمنة من خلال الفوضى.
يتبع
بوابة الشرق الأوسط الجديدة