تونس: «الربيع العربي» يُقتَل في مهده! (كريمة بنون)
كريمة بنون*
وُلد محمد براهمي، السياسي الليبرالي الذي اغتيل أمام منزله هنا في تونس العاصمة الخميس الماضي، في سيدي بوزيد، المدينة نفسها التي قام فيها بائع فواكه متجول بإحراق نفسه من شدة اليأس في ديسمبر 2010، مفجراً الثورة التونسية و«الربيع العربي».
«حزب النهضة» الإسلامي، الذي يحكم تونس، حمَّل مسؤولية قتل براهمي، وكذلك اغتيال شكري بلعيد – المدافع البارز عن حقوق الإنسان – قبل ستة أشهر، لمهرب أسلحة شاب لديه علاقات بتنظيم «القاعدة في بلاد المغرب الإسلامي». لكن «النهضة» نفسها تتحمل الجزء الأكبر من المسؤولية، وينبغي التنديد بها لكونها حزباً متشدداً خلق مناخاً لتصاعد العنف الأصولي الذي بات يهدد حيوات النشطاء العلمانيين والليبراليين.
وسائل الإعلام الغربية تصف «النهضة» باعتبارها صوتا للاعتدال، والحال أنه تدفع في اتجاه دستور – عارضه براهمي صراحة – من شأنه إرساء أسس دولة إسلامية قمعية. ففي وقت سابق من هذا الشهر، في تجمع نُظم هنا في تونس العاصمة لدعم الرئيس المصري المعزول محمد مرسي، قال «الصحبي عتيق»، رئيس كتلة «النهضة» في المجلس الوطني التأسيسي محذراً: «نقول للذين داسوا على إرادة الشعوب… إن كلّ من يستبيح إرادة الشعب المصري أو الشعب التونسي سيستباح في شوارع تونس». وقد ندد زعماء الأحزاب بتصريحات «عتيق»، لكن بعض المعلقين ربطوها على نحو يمكن تفهمه بمقتل براهمي، الذي كان وصف إسقاط مرسي باعتباره «تصحيحاً لمسار الثورة المصرية».
ومنذ حصولها على استقلالها عن فرنسا عام 1956، تشتهر تونس بقوانينها الأكثر تقدمية، فيما يخص النساء والعائلة في المنطقة. لكن «النهضة» تحاول التخلي عنها. وتقول «آمال قرامي»، وهي مدرسة التاريخ بجامعة منوبة التي حوصر مقرها العام الماضي من قبل نشطاء سلفيين يعارضون مساواة النساء، إن الربيع العربي «فجّر أزمة هوية ذكورية» تقوّي المواقف المتشددة التي تتخذها بعض الأحزاب الإسلامية. وفي هذا السياق، تشير «قرامي» إلى أن الأصوليين في تونس دعوا إلى ارتداء بنات لا تتعدى أعمارهن الثانية عشرة الحجاب والنقاب. كما دعا مشرِّع من «النهضة» إلى «تطهير الإعلام وتطهير الثقافة»، بينما دعت نائبة أخرى عن حزب «النهضة» إلى التمييز في النقل العام حسب الجنس. وتحدث بعض الإسلاميين عن تقنين ختان الفتيات، وهي ممارسة غريبة كلياً على تونس.
والواقع أن العديد من التونسيين الذين استجوبتُهم الشهر الماضي – في المعارضة السياسية، والوسط الأكاديمي، والحركة النسائية – أخبروني بأنهم باتوا يشعرون بالتهديد. وفي هذا الإطار، قال رجل مساء الخميس من بين المعزين خارج منزل الناشط المغتال: «إنكم جميعاً محمد براهمي».
وفي وقت سابق من هذا الشهر قالت ناشطة شابة في مدينة صفاقس الجنوبية، يوجد حزبها ضمن ائتلاف «الجبهة الشعبية» الذي كان ينتمي إليه براهيمي: «إن اليسار كله بات تحت التهديد». والأسبوع الماضي فقط، حذّرت أستاذة القانون والناشطة المدافعة عن حقوق النساء «سناء بن عاشور» من إمكانية حقيقية للعنف، وحذرتني قائلة: «يجب أن نتوخى الحذر».
وللحؤول دون ذهاب تونس في الطريق الذي سلكته الجزائر عام 1991، يتعين على كل المجموعات المناوئة للأصولية أن تتوحد – وهو ما شرعت في القيام به – كما أنها ستحتاج إلى الدعم الدولي من النوع الذي لم يتلقاه الديمقراطيون العلمانيون في الجزائر أبداً. ولهذا، يجب على الحكومات الغربية أن تضغط على السلطات التونسية حتى توفر الحماية للأشخاص المعرضين للخطر. لكن حتى الآن، يقوم الاتحاد الأوروبي والولايات المتحدة، اللذين يركزان على سوريا ومصر، بغض الطرف عما يجري في تونس إلى حد كبير.
مراد الصقلي، مدير مهرجان قرطاج الدولي، قال إن قتل براهمي لن يعمل إلا على زيادة «تصممينا على الدفاع عن حقوقنا في الثقافة والحياة، وحقنا في أن نكون مختلفين، وحقنا في الفكر الحر». وقد حضرتُ مهرجان هذا العام في العشرين من يوليو، في مسرح غص بالجمهور هنا في تونس العاصمة، حيث غنّى حشد من الشباب والعائلات بجذل رفقة المغني الجزائري الشاب خالد حتى الواحدة صباحاً بالعربية والفرنسية والأمازيغية: «سوف نرقص، سوف نحب… هذه هي الحياة».
غير أن هذا المزاج البهيج استُبدل بجو وصفته صحيفة «لابريس» التونسية يوم الأحد بـ«التمردي»، حيث يقاطع عشرات المندوبين المجلس التأسيسي، وهو الهيئة المكلفة بكتابة دستور جديد، والتي انقضى تفويضها القانوني في أكتوبر الماضي. ويريدونه أن يُستبدل بـ«حكومة إنقاذ وطني» تستطيع الدعوة لانتخابات جديدة.
أحد المندوبات، وهي نادية شعبان، وقفت بين مئات المتظاهرات اللاتي التحف بعضهن بالعلم التونسي، وتقابلن مع مجموعة أصغر جميع أفرادها من الذكور تهتف «الله أكبر» وتحمل العلم السلفي الأسود. وقالت لي شعبان: «لقد عاش الإسلام هنا 14 قرناً»، مضيفة: «إنه لا يواجه أي تهديد، والحل بالنسبة لمشاكلنا اقتصادي، وليس دينياً».
ويوم السبت، ووري براهمي الثرى في جنازة مهيبة شارك فيها نحو 30 ألف شخص، من بينهم محامية تسلقت جدران المقبرة بعد أن وجدت مدخلها مسدوداً بالمشيِّعين وقالت لي: «لقد تعرضنا للاختطاف من قبل الأصوليين الدينيين؛ لكننا قررنا – نحن الشعب – استعادة بلدنا وثورتنا».
فهل ستكون لدى الغرب الشجاعة والرؤية لمساعدتها وآخرين عبر شمال أفريقيا ممن يدافعون عن الحرية وحقوق الإنسان عبر الاحتجاج السلمي؟ إذا كان الجواب بالنفي، فإن «الربيع العربي» قد يموت في البلد الذي وُلد فيه.
*أستاذة القانون بجامعة كاليفورنيا
صحيفة الاتحاد الأماراتية