تَوجيه الاتّهام رَسميًّا لساركوزي بالفَساد.. كيف أوصَلَهُ القذافي إلى قصر الإليزيه ثُمَّ السَّجن بعد 11 عامًا في أكثرِ فُصول الانتقامِ الإلهيّ دراميّة؟
اعتقال نيكولا ساركوزي الرئيس الفرنسي الأسبق ثم الإفراج عنه بِكَفالة، بتُهمة الحُصول على تَمويلٍ يَصِل إلى أكثر من 50 مليون يورو لتَمويل حَملتِه الانتخابيٍة الرئاسيّة عام 2007 التي فازَ فيها، أثلج صَدر المَلايين من أبناءِ الشَّعب الليبيّ، ومِثلُهم من العَرب والمُسلِمين أيضًا، الذين عانوا، وما زالوا يُعانون من كارِثةِ التدخُّل العَسكريّ لحِلف “الناتو” الذي دَمّر ليبيا وحوّلها إلى دولةٍ فاشِلة، وقَتل عشرات الآلاف من أبنائِها، وشَرّد ما يَقرُب من ثلاثة ملايين يَعيشون على الكَفاف في دُوَل الجِوار، وهذا لا يَعني أن أحوال من بَقوا في أرضِهم أفضل، بل أكثر سُوءًا في مُعظَم الحالات.
التَّحقيقات التي أجراها المُحقِّقون الفرنسيّون مع ساركوزي، أكّدت “أنّ هُناك أدلّةً جِدّيَّةً تَرتقي إلى مُستوى الجَريمة، مُتشعّبة الجوانِب، منها ما هو مُتعلِّق بالفَساد وغَسيل الأموال، وأُخرى تُشير إلى مُخالَفِة القانون الفرنسي المُتعلِّق بِشُروط تَمويل الحَملات الانتخابيّة”.
من المُفارَقة أن العقيد الراحل معمر القذافي هو الذي أوصلَ ساركوزي إلى قَصر الإليزيه، وهو الذي أطاح به، وأوصله إلى المُعتَقل، وسِلسلة طويلة من التَّحقيقات امْتدت لأكثر من خَمس سنوات كانت حافِلةً بالفَضائِح.
ساركوزي اعتقد أنّه بالوُقوف خَلف إطلاق غارات طائِرات حِلف “النّاتو” وقَتل العقيد الليبي بِطريقةٍ دمويّةٍ بَشِعة، سيَدفنه وأسراره في مَكانٍ مَجهول في الصَّحراء الليبيّة، ولم يَكُن يعلم أن “لعنة العقيد” ستُطارده وتَقِض مضاجِعه طِوال حياته، وسَتُدمِّر مُستَقبله السِّياسي والشَّخصي مَعًا، وستَقذِف بِه إلى مَزبَلَة التَّاريخ التي يَستحِقّها عن جَدارة.
العقيد القذافي، وأُسرته، والمَلايين من أبناء الشعب الليبي الذين يترحّمون على حُكمِه هذهِ الأيّام بعد أن شاهدوا أوضاع بِلادهم البائِسة على أيدي خُلفائِه، يدينون بالفَضل إلى زياد تقي الدين، رجل الأعمال الفرنسي من أصل لُبناني الذي كان أوّل من “علّق الجَرس” وفَضح المستور، عندما تحدّث للإعلام، وصحيفة “ميديا بارك” الفرنسيّة الإلكترونيّة بالأدلّة، وأكّد أنّه حَمل ثلاث حقائِب مَحشوّة بأكثر من خَمسة ملايين يورو نَقدًا من فِئتيّ 200 و500 يورو، سَلّمها إلى مدير مكتب ساركوزي عندما كان وزيرًا للداخليّة أثناء الحملة الرئاسيّة، والتقاه شخصيًّا في مَقر الوزارة، والأكثر من ذلك أنّه عزّز هذهِ الأموال بوثيقة حَصل عليها من السيد موسى كوسا، رئيس المُخابرات الليبي الأسبق، تُؤكِّد أن نظام القذافي قدَّم 50 مليون يورو نَقدًا لحَملة ساركوزي.
العقيد القذافي قال في آذار (مارس) عام 2011، وبعد أن اتضح دور ساركوزي في الوقوف خَلف تدخّل حلف “الناتو” لإسقاط حُكمِه “أنا الذي ساعد ساركوزي للوصول إلى السُّلطة، مَنحته المال لكي يُصبِح رئيسًا.. جاء إلى هُنا وزار خيمتي عندما كان وزيرًا للداخليّة وطلب المُساعدة”، أمّا نجله سيف الإسلام فطالب “المُهرِّج” ساركوزي في مُقابلةٍ مع قناة “يورونيوز” “بإعادة الأموال التي أخذها من ليبيا لتَمويل حملته الانتخابيّة”.
احتمالات إصدار أحكام بالسَّجن ضِد ساركوزي تبدو كبيرة، فمُعظَم الشُّهود على تلقّيه أموالاً من ليبيا ما زالوا أحياء، ولم يُدفَنوا مع العقيد القذافي، ويُمكِن استدعاؤهم للشَّهادة، أو الذَّهاب إليهم من قِبَل القضاء والمُحقِّقين لأخذ شهاداتِهم، مِثل سيف الإسلام، عبد الله السنوسي (في ليبيا)، أو موسى كوسا (في قطر)، وبشير صالح، مُدير مكتب القذافي المَوجود حاليًّا في جنوب أفريقيا.
من المُفارَقات أن ساركوزي قال للمُحقِّقين، حسب صحيفة “لو فيغاروا” الفرنسيّة، أنّه ضحيّة حَملة بدأها ضِدّه العقيد القذافي وواصلها “زُمرَته” كَلّفته الكثير، وحوّلت حياته إلى جحيم، وخَسّرته انتخابات عام 2012 الرئاسيّة بأقل 1.5 بالمِئة من الأصوات فقط، ونَفى كًل هذهِ الاتّهامات ضِدّه.
ساركوزي خَسِر الانتخابات الرئاسيّة، ولكن الشعب الليبي ضحيّة مُؤامرته خَسروا وطنهم، وأمنهم، واستقرارهم، وتحوّلت حَياة الملايين مِنهُم إلى جحيم، سواء داخل ليبيا أو خارِجها.
من حَق هؤلاء من الليبيين أن يَشمتوا بساركوزي وأن ينتقموا مِنه، وأن يَزجّوا بِه خَلف القُضبان، وهذا قليل عليه، لأن حَجم الدَّمار والقَتل الذي وَقف خلفه في ليبيا، ويتحمّل المَسؤوليّة الأكبر عنه، لم يَكُن يتصوّره عَقل، والأخطر والأهم من ذلك أنّه ما زالَ مُستمرًّا حتّى الآن، وربّما لعُقودٍ قادِمة.
إنّها لعنة الشعب الليبي الطيّب أيضًا الذي تعرّض لأكبر خدعة في تاريخه عندما صدّق أن حلف “الناتو” وطائِراته سيَجلب لهم الديمقراطيّة والعدالة الاجتماعيّة، وسيُؤسِّس نَموذجًا للأمن والاستقرار والرَّخاء والمُستقبل الأكثر إشراقًا، لعنةٌ حلّت بساركوزي، وسَتُطارِد آخرين أيضًا تورّطوا في هذهِ المُؤامرة الكارثيّة وعلى رأسِهم شخصيّات ليبيّة وزُعماء عَرب وهم يَعرِفون أنفسهم جَيّدًا.
الانتقام لن يُعيد الحياة إلى القذافي وحواليّ 35 ألف شهيد ليبي مزّقت أجسادهم الطَّاهرة قذائِف وصواريخ طائِرات حِلف “النّاتو”، وقذائِف الميليشيات التي استولت على الحُكم، وعاثَت في الأرض قتلاً وتدميرًا ونهبًا لثَروات الشعب، التي تُقدَّر بأكثر من 360 مليار دولار تَركها النِّظام السَّابِق ودائِع باسم هذا الشَّعب في مصارِف واستثمارات عالميّة، ولكنّه يَظل نَوعًا من العَدالة الوَضعيّة والربّانيّةِ أيضًا، وهذا أضعفُ الإيمان في رأينا.
المأساة الكُبرى بالنِّسبة للكَثير من المُتورِّطين شُركاء ساركوزي في مِحنة الشعب الليبي، أن يَخوض المهندس سيف الإسلام القذافي الانتخابات الرئاسيّة المُقبِلة، ويَفوز فيها، خاصَّةً أنّه يَحظى بدَعمٍ لا بأس به من قَبائِل كُبرى وقِطاعات ليبيّة مُهمّة باعتبارِه أحد أبرز المَخارِج من الأزمة، الرَّجُل أعلن عَزمه الترشُّح بعد تبرئَته مِن كًل الاتّهامات المُوجَّهة إليه.. ولا يُمكِن استبعاد هذا الاحتمال.. والله أعلم
صحيفة راي اليوم الالكترونية