جانيت المرادي تؤكد أن للمرأة دوراً كبيراً في الفن والوجود
كل الفنون في العالم لها مناهج فنية، توجيهية، إرشادية، فكرية، تصب في التقدم المكاني والزمني للإنسان الذي له الأثر الكبير في إظهار الفن بإحساس مرهف وفكر متقد وتجسيده بالصورة التي تليق بالجمال الفني فكراً ومضموناً.
لا يمكن للألوان أن تجسد فكرة، ولا يمكن لقلم الرصاص والطين والحجر أن يتحول إلى رؤية فكرية إلا بعد لمس وحركة هذه الأشياء الصامتة والإحساس فيها ونظمها وفق معايير وأطر مخطط لها مسبقاً، ولا شك أن هناك فرقا كبيرا بين الرسم كممارسة وجهد عضلي وبين التكوين الفني للطين والحجر، فالرسم يمكن ممارسته في أي مكان؛ الغرفة، الصالة، الحديقة، وغيرها من الأماكن التي يمكن استغلالها لهذا الأمر، أما ممارسة الطين والحجر لا يمكن ممارسته إلا في مشاغل كبيرة ومعامل لصب البرونز، وهي في نفس الوقت مكلفة، النحت هو بناء لجسم المنحوت بحديد ثم الطين الحر وبعدها الصب في قوالب مستخدماً البورك، أما النحت في الحجر، ينحت الحجر بالبدريل الكهربائي، وهذا أصعب الأعمال.
وباختلاف الجهد بين هذا الفن وذاك، تبقى الرغبة والحب والهواية، لهم الدور الرئيسي في العمل الفني مهما كان، لأن أي عمل بلا حب ورغبة لا يأتي كما يراد له كفكر ومضمون ورسالة، وممارسة هذه الفنون الرسم والتخطيط والنحت لهو أمر شاق جداً خاصة عندما تمارسه فنانة متألقة مثل جانيت المرادي، رغم رأيي، أن المرأة عندما تقوم بعمل فني أصيل تحبه وتحس فيه فكرياً وروحياً، أكيد ستبدع وتتألق فيه شكلاً ومضموناً.
أعمال الفنانة المتألقة جانيت المرادي في ظل مسيرتها الفنية وتجربتها الطويلة وخبرتها القيمة، لمست الكثير من المعاناة في مدن العالم، تصحب معها جراحات المسافات والغربة في كل الأماكن في الأزقة والشوارع والحارات بين لظى حرارة الشمس وزمهرير الشتاء وصقيع الثلوج وضباب الغمام، تواجه التناقضات البشرية بين أمزجة متمردة، ثائرة، متحجرة، جاهلية، وأخرى قانعة قد تكون مذلة أو زاهدة، فترحل بمخيلتها الأنثوية، الطرية إلى عوالم لا نهائية، تائهة بين المعقول ولا معقول، بين الوجود ولا وجود، بين الصمت واللا صمت، بين صرخة الأعماق والضياع في غربة العالم المفقود.
إنها تجربة فنانة متألقة، تسير مواكبة لإبداع خلفها، لأنها نبع الإبداع الحقيقي وأصله الذي لا يفارقها رغم كل الهمسات الجارحة والأناة الشجية الملتهبة والآهات التائهة في دجى الليالي المظلمة، ترنو للحلم ربما يكون الحلم ضائعاً في غربة الحياة.
أنوثتها الناضجة ثائرة غير مستقرة لزمن معين، ثائرة بالفكر والجمال يتخيل إليك إنها ليست ككل نساء العالم، شعرها الداكن يخفي إرهاصات هذا العالم المضطرب ومملكة نسائية ليس فيها عبيد وأسياد، وفي عينيها أحلام هاربة للمجهول، وروحها كطير النورس يسافر مع الرياح إلى أرض الجنان والحلم والأمان حيناً وإلى أرض اليباب والآلام حيناً آخر، كأنها تقول للعالم ها أنا ذا بينكم، ولكني لست بينكم.
صوتها يشرخ جدار الصمت والحب والواقع، كشلال كلي علي بك، تتخيل انك تسمع موسيقى هادئة سحرية طبيعية، وتارة مضطربة منفعلة ثائرة، يداها الناعمتان عجنت الطين وحركت الحجر ومسكت الفرشاة، لتصرخ فيهم، وتبكي عليهم ومن أجلهم.
إنها الفنانة التي نحتت المرأة لتقول لها كوني امرأة كما أرادت السماء، ونحتت الرجل لتقول له كفى جهلاً، كن رجلاً، ولا تكن من أشباه الرجال، أسمك رجل ونجمك من ضعفك وجهلك آفل.
الفنانة المبدعة جانيت المرادي التي جعلت للون جمالاً زاهية، وللتخطيط معنى، وللطين عالماً جريئاً، وللحجر صوتا راقياً رغم الصمت.
جسدت معاني التألق الإنساني في مجمل أعمالها الفنية التشكيلية والنحتية، بسحر لوحاتها الفنية التي تجسد جنان الطبيعة الزاهية، ورونقها وصفاءها، وصمتها الكوني الجميل فيظل هذا العالم الكارثة، فالألوان في لوحاتها الفنية توأم مترابط حيناً، ممزوجاً حيناً آخر مع بعضها بدقة متناهية، لتتجلى فيها عوالم الإحساس الجميل والنقاء الروحي الذي يلفت الأنظار بلا استئذان، ليست الطبيعة همها الوحيد رغم امتداد جذورها الأولية فيها
بلوحاتها جسدت الأماكن والأحياء السكنية البغدادية، العربية والدولية وهو اختيار موفق من إحساس فنانة وجدت الحياة وأحست بالصمت الرهيب، وجدت الأصالة في عمق تاريخ الإنسان، لتنقل رؤية العين الأولية ومن ثم تأويل هذه الرؤية إلى خطوط وألوان وأفكار على أقمشة بيضاء، ليس نقلاً مباشراً لحارة، لبيت، لباب أو نافذة، لأن كل هذه الرموز تحكي بصمتها قصة مرت من هناك في لحظة ما أو قدر ما، إنه ليس جنون الأماكن بل جنون اللحظة التي راودت البصر من النظرة الأولى ليتغلغل في أعماق الفنانة المبدعة جانيت المرادي، فهذا السفر بين الألوان والصمت يجعل الفرشاة تتمرد وهي بين أنامل ناعمة جميلة لسيدة التألق والفن الجميل جانيت المرادي ناهيك عن المخطوطات الراقية بحبر الصيني الأسود التي تجاوزت فيه التألق التخطيطي في الظل والضوء، والتي تحولت في نفس الوقت إلى أعمال نحتية لوحات صغيرة فخارية.
إن مزج هذا التكوين الفني التطوري، الرسم، التخطيط، النحت، ليس يسيراً بل شاقا ولكن الفنانة المبدعة جعلت منه رمزاً يذكر دائماً، فما زال “تمثال زبيدة” الجميل رغم صمته يروي حكايات ليالي بغداد الجميلة هذا العمل الرائع من عمل يدها، لا يزال شامخاً أمام باب عمادة كلية الفنون الجميلة في بغداد يتأمله من في أعماقه جذور الفن الأصيل، من حيث الاستهلال الذهني والوعي الإدراكي للشكل وللظل والضوء والأشكال المجسدة التي تحتاج إلى رؤية نافذة في جميع الاتجاهات.
عندما تبحر بعيداً وتتخيل حركة الطيف وتناثر فتات الحجر على يد الفنانة المبدعة جانيت المرادي يتجلى مدى هذا الصبر، وهذا الفكر المتقد، وهذا الإصرار والطموح، وهذا العطاء الفكري في زمن نام على الآلام والعذابات والجراحات، وفي معصميه قيود (لا)، لا تفعل هذا، أفعل هذا، وكلاهما صوت خافت يخجل منه الناظر والمنظور، وإن حاولت أن تعطي قيمة تفضيلية لأي عمل من أعمالها الفنية بين الرسم والتركيب الطيني والحجري، تجد كل عمل له نسبة تفضيلية عالية في الرؤية الفنية والتشكيلية والرمزية، رغم تجلي التدرج الفني بينهم كمسار تصاعدي متألق، مثلا تكوين خاص من الهيدروجين والأوكسجين بانفعال، يظهر الإدراك الحسي البشري، ثلاث مراحل مختلفة، صلداً، سائلاً، غازاً ، والخط الذي يميز أحدھما عن الآخر يظهر عند الفصل بین الجلید والماء، وبین الماء والبخار.
هكذا انقطاع أي رؤیة فنیة جزئیة، كلیة في أعمال الفنانة جانیت المرادي تعود إلى نقطة الأصل الفني. إن تجزؤَ ھذا العمل أو ذاك، ودمج صورتین لتكوین صورة ثالثة مع الواقع أو ضد الواقع بتناسق جمیل في اللمسات على شكل المجسد، وبما لا یقبل التأویل النوافذ التي يوفرها الرسم أسهل بكثیر من النوافذ الصعبة التي یوفرھا فن السیرامیك والنحت الذي یجعل عقل وفكر وذاكرة الفنان دائماً متقدة، وعامل مهم في استیعاب الصور والأشكال الفنیة.
إن فتات الحجر والطین تلتحم في ذاكرة الفنان المبدع، ویتجلى تفاعل قیم مع الإحساس والحب والرغبة داخل وعي الفنان ولیس الاتكال على المشاهدة البصریة فقط، عند تكوین عمل فني، ومن الخبرة الشاقة والتجربة الفنیة یتضح مدى فن التشریح الشكلي لیس البشري فقط بل شكل كل ما في العالم فقد علق سابارتيه على حقیقة “أن ذاكرة بیكاسو لأشكال العالم المحیط به كانت جیدة إلى حد أنه لم یكن بحاجة إلى وضع نماذج (مودیلات) أمامھ لقد حفظھا جمیعاً عن ظھر قلب بخطوط محیطاتھا، بخصوصيتها، وبكل ما من شأنھ أن یجعلھا فریدة …”
إذا لم یكن هناك ضرورة في الرسم، التوضیح بمكونات مادیة، لكن من الضروري جداً أن یتضح ذلك مع الطین والحجر عند الفنان الذي یصور الشكل عن طریق التركیب الفني وهنا لا یبقى سوى الرؤیة الفنیة بینھما.
الفنانة المتألقة جانیت المرادي لھا مسیرة رائعة في ھذا المیدان الجمیل والشاق في نفس الوقت رغم جمالھا وصمتھا العمیق من عقره كردستان إلى بغداد إلى كل مدن العالم تحمل غربتھا المركونة في زاویة من زوایا العالم، حیث روحھا كالطیر المھاجر إلى مدن العالم، رؤاها من أصالة الماضي العریق لرؤیة الحاضر للمرأة العراقیة المتألقة في عصر كاد یقتل فيه الإبداع، ولكن إصرار الفنان جعل للمرأة دوراً كبیراً في الفن والوجود.
ميدل ايست أونلاين