جدلية التراث والحداثة … لكل أمة من أمم الأرض تاريخها ، مهما كان حجمه و عراقته ، وبالضرورة أن الأمم تحتفي بتاريخها وتدرسه ، وتهتم بما تراه متميزا فيه فتضعه في صميم أولوياتها الحضارية ، فتلقنه لأطفالها وصغارها ، لكي تحافظ على تواتر هذا التاريخ للأجيال القادمة بالشكل الذي تراه مناسبا له . ومن يلاحظ الوضع بالنسبة للعالم العربي سيجد أن هذا التاريخ يتنازعه توجهين إثنين، أول يضعه في مرتبة متقدمة بل ومقدسة ويصنف كتابه و صناعه في مرتبة القديسين ، وفريق آخر ، لا يرى في التراث العربي سوى مجموعة سابقة من القيم والأفكار التي تثبت تخلف العالم العربي والإسلامي والتي لا يمكن أن تقدم للمستقبل العربي اليوم وبالطبع غدا ، أي فائدة ترجى . ومن هنا نشأ صراع فكري كان أحيانا عنيفا بين أقطاب الثقافة العربية ، وإستتبع ذلك استقطاب جلي بين شكلي هذا الصراع . وتمترس كل في معسكره بحيث يرفض الآخر والتحاور معه.
ومن يدرس بعمق ، الكثير من آثار التراث العربي ، سيجد أنه يحتوي على العديد من القيم والأفكار الإنسانية العليا ، المتضمنة حاليا في أدبيات التراث العالمي ، والتي تنسب إلى العديد من مفكري وأدباء الغرب.
كشاهد على ما سبق ، نورد مثالا حديثا على تناوش حدث منذ فترة بين طرفي هذا الصراع حول وجود أو عدم وجود مرجعيات فكرية عن الحرية في تراثنا العربي ، بل إن البعض رفض حتى فكرة وجود أي إشارات في التراث العربي تؤكد لوجود الحرية في هذا التراث ، وبالطبع كان هنالك فريق آخر يرى العكس تماما ، وأن التراث العربي مليء بهكذا إشارات ، في التراث الديني أو الفكري.
جاء عن الإمام الشافعي في تراثه قوله : ” قولي صواب يحتمل الخطأ ، وقول غيري خطأ يحتمل الصواب ” هذا المعنى ورد لدى الكثير من مفكري الغرب وكثيرا ما تغنى به الكبار من مثقفي العالم العربي ، متناسين أو غافلين عن أن التراث العربي يحتوي على هذه الأفكار التي سبق وأن وردت في تراثنا العربي قبل أن ترد في ما يسمى الحداثة الفكرية والحضارية العالمية.
في الأدب العالمي ، كتب دانتي مؤلف الشهير الكوميديا الألهية ، الذي تأثر به بكتاب الفيلسوف والشاعر العربي الكبير أبو العلاء المعري ، رسالة الغفران ، ومع ذلك ترى ، أن الكثير من مثقفي العالم العربي ، يعرفون كتاب دانتي أكثر مما يعرفون كتاب المعري ، علما أنه الأسبق والجذر ، والأولى بالدراسة والمتابعة ، كونه مؤلف عربي لقامة عربية كبرى.
ومن يرد التعمق أكثر ، سيجد أمثلة أخرى ، منها الفيزيائي ابن الهيثم ، الذي أوجد نظريات الضوء ، في لائحة العلوم العالمية ، وتعترف له كبريات المحافل العالمية بهذه الأسبقية وتسجل باسمه هذا الشرف ، ومع ذلك ، هو غير معروف إلا لدى الندرة من المثقفين العرب . والكلام نفسه ينسحب على ابن رشد وابن سينا والفارابي والكندي وآخرين.
من هنا ، تكمن المشكلة الأساس ، التي هي ليست في التراث ، ولكن في طريقة التواصل معه و الأهم التعرف عليه ، فلابد من الغوص في حيثيات التراث ، وقراءته قراءة متفحصة ضمن سياقاته الفكرية والتاريخية والمكانية التي أحاطت بظروف كتابته ، لكي يصار إلى فهمه بالشكل الأفضل ، وبالتالي إعتماده كحلقة فكرية وحضارية سابقة ، تتصل بالضرورة مع حلقات سابقة وأخرى لاحقة وصولا إلى اليوم . ولابد أن النظر إلى التراث باعتباره قيما مقدسة فيه خطأ ، وكذلك النظر إليه على أنه عديم الفائدة ، وكلا الموقفين يحمل تطرفا وتشددا لا خير فيه ، والأفضل التعامل معه على مقياس كلام الشافعي فهو فكر يحتمل الصواب والخطأ . كما في أي فكر إنساني.
التراث فيه الثمين والغث ، ويجب النظر فيه بتمعن وأخذ ما يناسب المرحلة ، فليس كل ما حفل به التراث جدير بالبقاء ، وهذا الأمر ينسحب تماما على الحداثة ، الوافد أغلبها من الحضارة الغربية ، والتي لا يجدر بنا أخذ كل ما يكون فيها لمجرد أنه يأتي باسم الحداثة أو لأنه جاء من الغرب . خاصة أن بعض قيم الغرب والتي تعتبر هناك من المسلمات ، قد لا تناسب قيمنا وحضارتنا.
في كل الحالات ، الصراع الحضاري ، كان دائما موجودا ، وقد سجل هذا الصراع وجوده منذ فجر التاريخ ، وكثيرا ما تصارعت الحضارات فكريا وأحيانا عسكريا . وهذا الصراع سيبقى ، ويجب أن يبقى ، ولكن ضمن حدود التجرد ، وعدم التشدد في الإنتماء لأي من تياراته ، وبالتالي ضرورة النظر إلى كل ما تنتجه الحضارة الإنسانية ، على أنه فكر إنساني يحتمل إمكانية الوصول لبر الصواب أو الخطأ . فالحقيقة ليست حكرا على أحد والخطأ ليس بعيدا عن أحد.