جذور الإرهاب في الشرق الأوسط
ما انفك المحلّلون في فرنسا يبحثون عن دوافع الإرهاب الذي استشرى في الشرق الأوسط وطال البلدان الأوروبية نفسها، بفعل شبان نشؤوا على أرضها وتعلّموا في مدارسها. بعضهم عزا جذور الإرهاب إلى التصدعات الاجتماعية في البلدان المتقدمة التي أنتجت يأسا اجتماعيا وقع التعبير عنه عبر الجهادية العنيفة، وهو ما لخّصه الباحث المتخصص في التيارات الإسلامية أوليفيي روا بأسلمة الراديكالية. فيما ذهب آخرون إلى القول إن الإسلاموية هي نتاج انحراف للإسلام الأصولي دفع ببعض أنصاره إلى العنف، كما أكد متخصص آخر هو جيل كيبل.
وظل الجدل بين الفريقين قائما، مركزا في الغالب على أنماط تجنيد الشباب عبر المواقع الإرهابية على الشبكة، على غرار تنظيم داعش، وسبل تفكيك خطاب تلك المواقع، دون البحث عن العوامل العميقة التي تفسّر نشوء ذلك التنظيم، مثل غيره من التنظيمات التي سبقته، نشوءا لا يجد جذوره في الصراع الاجتماعي الغربي، بوصفه عاملا ثانويّا، بل في التحولات العنيفة التي هزّت منطقة الشرق الأوسط منذ سنين طويلة.
تلك الثغرة، كما يقول المتابعون، نهض لسدّها في الآونة الأخيرة مؤرخ من جامعة أكسفورد هو البريطاني جيمس بار في كتاب بعنوان “خط في الرمل”، وأكاديميان فرنسيان متخصصان في الحقل الجيوسياسي هما بيير بلان من جامعة بوردو وجان لوي شانيولّو مدير معهد البحوث والدراسات الخاصة بمنطقتي البحر المتوسط والشرق الأوسط، في كتاب مشترك عنوانه “الاختراع التراجيدي للشرق الأوسط”.
والكتابان يعودان بنا إلى بدايات القرن الماضي حين اتفق الإنكليز والفرنسيون على اقتسام الولايات العثمانية القديمة بعد تهاوي سلطة الباب العالي، وتوالي هزائم جيوشها، فيما عرف باتفاقية سايكس-بيكو، ما يوهم بوجود انسجام بين بريطانيا وفرنسا، لا سيما أنهما كانتا تخوضان حربا ضروسا ضد ألمانيا وحليفاتها، والحال أن كلتيهما كانت في الواقع تمارس دبلوماسية مزدوجة.
فبريطانيا، في سعيها لإضعاف ألمانيا من خلال النيل من حليفتها في المشرق، أي الإمبراطورية العثمانية المتداعية، شجعت مطالب التحرر في العالم العربي، لا سيما ثورة 1916 التي قادها الحسين بن علي شريف مكة، عبر عملائها في المنطقة، وأدهاهم توماس إدوارد لورانس (1888-1935) الشهير بلورانس العرب، ولكنها كانت في الوقت ذاته تتفاوض سرّا مع الفرنسيين لتقاسم نفس المنطقة، وتتنكّر لحركات التحرر العربية. أما فرنسا فكانت لا تدخر جهدا، كما سنرى، لعرقلة التوسع البريطاني، وفي الأقل تقليص نفوذه.
والغريب أن تلك الاتفاقية التي تقرر بموجبها مصير شعوب الشرق الأوسط قاطبة، والتي لا يعرفها الأوروبيون كثيرا، حرّرها موظفان من درجة دنيا، فالبريطاني مارك سايكس (1879-1919) هو دبلوماسي رقيع يزعم أنه خبير بالشرق الأوسط والحال أنه لا يتقن العربية ولا التركية، وما كتبه عن الإمبراطورية العثمانية عديم القيمة التاريخية والعلمية. أما الفرنسي فرانسوا جورج بيكو (1870-1951) فقد كان عضوا في الحزب الكولونيالي الفرنسي، ومجرد قنصل في بيروت عند اندلاع الحرب، واعتاد أن يتخذ قراراته دون الرجوع إلى حكومته.
وقد بدأت الاتفاقية عام 1916 برسم خط مائل على خارطة يبدأ من عكا على ساحل المتوسط وينتهي إلى كركوك على الحدود الفارسية، ويحدّد مجالي نفوذ كل طرف: ما يقع شمال الخط باللون الأزرق من نصيب فرنسا، ويشمل لبنان وسوريا. وما يقع جنوبه باللون الأحمر من نصيب بريطانيا، ويشمل فلسطين وبلاد الرافدين.
كانت عشرينات القرن الماضي بداية مراحل التراجيديا التي نشهدها حاليا، حيث انفجرت النعرات الطائفية والمذهبية خلف حدود مصطنعة رسمها الاستعمار في منطقة رزحت طويلا تحت نير الحكم العثماني، وكأن تلك المجتمعات لا حق لها في تحقيق استقلالها، إلا بالرضوخ لشروط المنتصرين. ثم دخلت الاتفاقية حيّز التنفيذ عام 1920، فحصلت فرنسا على الجزء الأكبر من الجناح الغربي من الهلال الخصيب، سوريا ولبنان، ومنطقة الموصل في العراق. أما بريطانيا فامتدت مناطق سيطرتها من حدود بلاد الشام الجنوبي لتضم بغداد والبصرة وجميع المناطق الواقعة بين الخليج العربي والمنطقة الفرنسية في سوريا. كما تقرّر أن تقع فلسطين تحت إدارة دولية يتم الاتفاق عليها بالتشاور بين بريطانيا وفرنسا، إضافة إلى روسيا، التي كانت أول من فضح تلك الاتفاقية السرية عند اندلاع الثورة البلشفية.
كل ذلك يوحي بأن البلدين المتحدين منذ 1804 بـ”وفاق حميم” هما صديقان وفيان، ولكن الواقع، كما يبيّن جيمس بار، كان عكس ذلك، إذ ما فتئ كل طرف يخوض حربا سرية ضد الطرف الآخر لاقتسام الشرق الأوسط، بطريقة لا تزال آثارها السياسية والنفسية بادية حتى الآن، من حلب إلى القدس. فالبريطانيون كانوا يؤلّبون العرب على فرنسا ويشجّعون مقاومتهم إياها، ويقفون مع الدروز في حربهم ضدها. أما الفرنسيون فكانوا يدعمون الإرهابيين اليهود بالأسلحة ويشجّعونهم على اغتيال الإنكليز في فلسطين.
وظلّ الوضع كذلك حتى عندما تدخل الإنكليز لتحرير فرنسا المحتلة إبان الحرب العالمية الثانية. واستنادا إلى عدد هام من الوثائق، يكشف بار عن ملمح لم يسبق أن تناوله المؤرخون على حدّ علمنا، وهو أن فرنسا، كي تنتقم لنفسها من الأعمال العدائية التي أصابتها من بريطانيا، شجعت بقوة الحركة الصهيونية منذ عام 1945 ودعمتها بالمال والسلاح، وسهلت هجرة اليهود إلى فلسطين، وأقامت علاقات وطيدة مع المنظمات الإرهابية الصهيونية التي تغتال البريطانيين. بل إن فرنسا، حسب بار، مورّطة في اغتيال اللورد والتر موين (1880-1944) المندوب السامي في مصر، بعلم من الجنرال ديغول، الذي سيدين لاحقا السياسة التوسعية لإسرائيل، بعد أن ساعدتها فرنسا سنين في تجاربها لامتلاك القنبلة النووية.
تلك الاتفاقية، التي لم توضع إلا لخدمة مصالح القوى الاستعمارية، رفضتها شعوب المنطقة بعد أن أنهكتها سنوات من العنف السياسي والاجتماعي. ولئن سمحت بخلق دول بشكل اعتباطي كسوريا والعراق والأردن ولبنان، فإنها استبعدت الشعبين الكردي والفلسطيني، إذ تمّ تهميش مطالبهما في رسم الخارطة الإقليمية.
وبدل أن تحقق تلك الاتفاقية الاستقرار والتعاون لشعوب المنطقة، زرعت الفوضى وولدت الحرمان والحقد في النفوس، وكانت عشرينات القرن الماضي بداية مراحل التراجيديا التي نشهدها حاليا، حيث انفجرت النعرات الطائفية والمذهبية خلف حدود مصطنعة رسمها الاستعمار في منطقة رزحت طويلا تحت نير الحكم العثماني، وكأن تلك المجتمعات لا حق لها في تحقيق استقلالها، إلا بالرضوخ لشروط المنتصرين في الحرب العالمية الأولى، الذين كانوا يَعِدون كل الأطراف بالشيء نفسه، كما هي الحال مع بريطانيا التي وعدت الحركة الصهيونية عام 1917، على لسان وزير خارجيتها اللورد آرثر بلفور (1848-1930) بإقامة وطن قومي لليهود في فلسطين، وكانت قبلها قد وعدت العرب أيضا باستعادة أوطانهم وتقرير مصيرهم، فصار توطين اليهود منذ ذلك الوعد أحد محرّكات السياسة البريطانية في المنطقة.
أو على غرار فرنسا التي لم تر حرجا في التمييز بين الشعوب على أساس المصلحة، فقد تم تهميش وفدي العرب والأكراد اللذين يمثلان شعوبا ذات أغلبية ديمغرافية، خلال مؤتمر السلام الذي انعقد في باريس عام 1919، واحتفت بمن يمثل أقليات، كالمارونيين والصهاينة الذين احتلوا صدارة المفاوضات، وحصلوا عقب المشاورات الدبلوماسية على نتائج هامة.
أما شريف باشا عن الأكراد، والأمير فيصل عن العرب، فلم يحصلا على شيء يذكر. كذلك الأرمن، إذ قوبلت مطالبهم بالتجاهل، رغم الإبادة الجماعية التي ألحقها بهم الأتراك عام 1915. والكتاب يخصص فصلا لتلك الشعوب، مع التأكيد على معاناة الشعبين الكردي الممزق بين أكثر من دولة، والفلسطيني الذي جاوزت معاناته القرن دون أمل في حلّ، بل إن قضيته تكاد تختفي من المشهد إعلاميا وسياسيا، بسبب النزاع في العراق وسوريا، بعد أن أشبعته “الشرعية الدولية” وعودا زائفة.
الكتاب الثاني، الذي وضعه بيير بلان وجان بول شانيولّو، يعالج هو أيضا المسائل نفسها، ويركّز على حصول القوتين الاستعماريتين بريطانيا وفرنسا، بعد الانتصار في الحرب العالمية الأولى، على تفويض من عصبة الأمم تفرضان بموجبه هيمنتهما على الشرق الأوسط. وبذلك أُهملت مطالب العرب، فمثّل ذلك الإهمال بداية سلسلة من الإذلال غذت حقد النخبة العربية على الغرب، ثم عقبتها كراهية الشعوب العربية قاطبة لهذا الغرب الذي نكث العهد. ولما تهاوى النظام الكولونيالي بعد الحرب العالمية الثانية ظهرت القومية العربية واستقرت داخل الحدود المصطنعة التي رسمها سايكس وبيكو، حيث صار لكل شعب دولة إلى جانب الدول التي كانت قد حازت استقلالها كلبنان وتركيا وإيران، وكذلك إسرائيل التي فرضت على أرض فلسطين كدولة قائمة الذات، ما ولّد نقمة عارمة لدى الفلسطينيين تجسمت في نزاعات عسكرية ودبلوماسية لا تنتهي.
ويتوقف الكاتبان عند القومية العربية التي كانت مبعث أمل في البداية، قبل أن تتهاوى تحت هيمنة أنظمة عنيفة وفاسدة. واختارت أحزاب الاستقلال القومية الاشتراكية كأيديولوجيا، قبل أن تحلّ محلها أصولية دينية رأت فيها الشعوب تأكيدا لهويتها العربية الإسلامية، ولكنها سرعان ما جنحت للتشدد، فمهدت لظهور تنظيمات إرهابية كالقاعدة وداعش، وهي تنظيمات يعتبرها الكاتبان مسخا داميا واستبداديا للمطالب التي نادى بها العرب أيام لورانس. ولم تنتقل تلك الدعوات العنيفة إلى الجاليات المسلمة المهمّشة في الغرب إلا في مرحلة لاحقة. وفي رأيهما أن ثمة سببا أول، هو تاريخ الشرق الأوسط، حيث لعب الغرب الدور الأسوأ؛ وسببا ثانيا، هو تهميش الجاليات المسلمة في بلاد الغرب. يقول الكاتبان “إن أهْملنا السبب الأول، فذلك معناه أننا نحكم على أنفسنا بعدم فهم الإرهاب الذي يصيبنا”.
من نافلة القول إن الشرق الأوسط لا يزال يستقطب التوترات الدولية. فتجميد الملف الفلسطيني والإرهاب الجهادي والحروب الأهلية في العراق وسوريا والهزات المستمرة في لبنان وهشاشة الأردن، إضافة إلى تدخل القوى العظمى التي من النادر أن تترك الفرقاء المحليين يعالجون قضاياهم بأنفسهم.. كلها مظاهر تتواصل منذ أعوام، بل منذ عشرات السنين، ما يضع الشرق الأوسط في قائمة المناطق التي تتميز بأكبر قدر من العوامل الاستراتيجية المجهولة وأكثرها تعقيدا في رأي الكاتبين.
وفضل الكِتابين أولا أنهما يشكلان تذكيرا دقيقا بالمنعرج الاستراتيجي لعشرينات القرن الماضي لفهم توالي الأزمات والمآسي التي ما انفك الشرق الأوسط يروح ضحيتها منذ ذلك التاريخ. فالثورات الشعبية سحقتها القوى الاستعمارية ما بين الحربين. ولما حازت بعض الدول استقلالها شابت مسيرتها سلسلة من الانحرافات كالاستقطاب الطائفي المتنامي ومنطق الوثوب على السلطة وتوزيع الثروات بحسب الانتماء القبلي وهيمنة العنف والانقلابات العسكرية واضطهاد الشعوب…
وفضلهما ثانيا أنهما ينزّلان الفوضى المرعبة التي يشهدها الشرق الأوسط في المدى الطويل للتاريخ، ويذكّران بمسؤولية كل طرف، إذ يوجه المؤلفون الثلاثة إصبع الاتهام إلى تدخلات القوى العظمى التي غالبا ما أدت إلى تقويض دول بحالها. فبعد بريطانيا وفرنسا جاءت الحقبة الأميركية السوفييتية بويلاتها، ثم عقبتها التدخلات التركية والإيرانية وبعض دول الخليج ما زاد الأوضاع تأزما والأوطان تحللا. كما يؤكد الكتابان على مركزية الحدود كرهان هام في تلك البقعة من العالم، فلا يمكن، في نظر المؤلفين، أن تحظى المنطقة بمؤشرات مشجعة ما دامت تلك المسألة مطروحة.
مجلة الجديد اللندنية