مكاشفات

جرائم تهدّد النّسيج السّوريّ.. بين واجب الاعتراف وخطر الانزلاق

د. محمّد الحورانيّ

من أجل عدالة شاملة لكلّ الضّحايا ومواجهة العنف بلا تمييز.. حماية القيم الأخلاقيّة شرطٌ لبقاء المجتمع السّوريّ

 

بعيداً من لغة التّخوين والاتّهام وترسيخ خطاب الكراهية والطّائفيّة والاصطفاف البغيض، يبدو أنّ هناك ظواهرَ خطِرة بدأت تنتشر في الشّارع السّوريّ، في بعض المحافظات، ظواهرَ من شأنها أن تعمّق الشّرخ في المجتمع، وأن تأخذه إلى مسارات لا تُحمد عواقبها.

حادثة الاعتداء على “روان” ابنة “حورات عمورين” أثارت الرّأي العامّ السّوريّ، وخلقت موجةً كبيرةً من التّعاطف والدّعوات لملاحقة الفاعلين وإنزال أقسى العقوبات بهم، لكنّها في الوقت نفسه أطلقت موجةً من التّجييش والهيجان الطّائفيّ بسبب التّداخل الطّائفيّ والعشائريّ الكبير في المنطقة، كما هو الحال في معظم الجغرافيا السّوريّة.

هذا السّلوك الهمجيّ اللاأخلاقيّ مرفوضٌ عند جميع السّوريّين الّذين تربّوا على منظومةٍ أخلاقيّة وقيميّة نابعة من أعراف آبائهم وأجدادهم، ويؤكّد هذا حادثةُ الاعتداء والتّنمر الطّائفيّ على شرطيّ السّير في دمشق من فتاة تصرّ على خطابها الطّائفيّ الحاقد والمقيت، إلاّ أنّ التّعاطف الكبير مع المعتدى عليه من المكوّنات السّوريّة كافّة أظهر حجم الرّفض الشّعبيّ لحوادث الاعتداء الطّائفيّ والعرقيّ، سواء أكان هذا الاعتداء لفظيّاً أو جسديّاً، ومع ذلك هناك من يحاول تشويه هذه المنظومة وإظهار السّوريّين على أنّهم الأكثر همجيّةً وعنفاً في المنطقة، على الرّغم من تاريخهم المعروف بالتّسامح والالتزام الأخلاقيّ وحماية كلّ من أتاهم زائراً، مهجّراً أو خائفاً من الاعتداء والظّلم، فكيف الحال لدى أبناء بلدهم وجيرانهم، مهما كانت طوائفهم أو مكوّناتهم؟

في سورية اليوم هناك من يحفر أخاديدَ عميقة من الجراح الأخلاقيّة والإنسانيّة والطّائفيّة، وهي جراحٌ لا يمكن أن تندمل بسهولة، وخاصّة أنّ الجسد السّوريّ مثخنٌ بالشّروخ الّتي كادت تقتله.

حادثة الاغتصاب والاعتداء الّتي تعرّضت لها “روان” ليست الأولى من نوعها، بل هناك عشرات السّوريّات اللّواتي تعرضنَ للخطف في مناطق مختلفة، منها دمشق وحلب وغيرهما، ولم تقع هذه الحوادث كلّها في الأطراف، بل حدث قسم منها في قلب العاصمة دمشق، كما في حيّ “الزّاهرة” حين تعرّضت أمّ لطفلين للاختطاف في طريق عودتها من تسجيل ابنها في المدرسة.

ربّما يقول قائل: هذه الحوادث قد تصيب أيّ مجتمع في لحظات التّحوّل الكبرى، نعم قد تحدث مثل هذه الجرائم في أماكن نائية وهشّة أمنيّاً أو في اللّيل وفي مناطق تفتقر إلى السّيطرة، أمّا أن تقع في وضح النّهار وفي قلب العاصمة أو حلب وغيرها فإنّ ذلك ينذر بخطَرٍ كبيرٍ لا يهدّد منطقة بعينها، وإنّما المجتمع السّوريّ كلّه.

ظواهر الاعتداء الجسديّ والقتل، كما في حال الفقيد المغدور “عطا صالح الفيّاض” الّذي قضى نتيجة اعتداء غادر ممّن يفترض أنّهم المدافعون عنه وعن غيره، إضافةً إلى حوادث الاغتصاب والخطف، كلّها من شأنها أن تدفع المجتمع والدّولة إلى أماكن مظلمة من الصّعب الخروج من مياهها الآسنة.

ولا يمكن ونحن نكتب عن العنف الجسديّ والاعتداءات أن نغفل جانباً شديد القسوة عاشه السّوريّون والسّوريّات خلال السّنوات الماضية، وهو الانتهاكات الجنسيّة الّتي وقعت أثناء الحرب وفي المعتقلات وأماكن الاحتجاز، والّتي تركت جروحاً غائرة في جسد المجتمع السّوريّ لا تقلّ خطورةً عن الجرائم الّتي تقع اليوم في الشّارع، إنّ الاعتراف بمعاناة هؤلاء الضّحايا جميعاً -بلا استثناء أو تمييز في المكان أو الزّمان أو الجهة الفاعلة- هو شرطٌ أخلاقيّ وإنسانيّ لأيّ حديث عن العدالة أو الإصلاح في المجتمع، وهو الضّمانة الوحيدة لبناء خطابٍ وطنيٍّ جامعٍ لا يهمّش أحداً، ولا يضاعف آلام الضّحايا، كما أنّ ترك المجال مفتوحاً لأصحاب الخطاب الطّائفيّ التّحريضيّ؛ من شأنه أن يؤدّي إلى مزيد من العنف والاعتداء اللّفظيّ والجسديّ من مكوّن أو طائفة على أخرى، وهو ما ينذر بتحويل الهُويّات إلى هويّات قاتلة ومدمّرة في المجتمع السّوريّ.

لهذا علينا جميعاً أن نرفع الصّوت، ونطالب الدّولة بوضع حدٍّ لهذه الجرائم قبل أن يتّسع الخرق على الرّاتق، وننجرّ إلى فوضى واحتراب مجتمعيّ نتيجة سلوكيّات همجيّة بعيدة من أخلاق السّوريّين وتربيتهم.

بوابة الشرق الأوسط الجديدة

 

 

 

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى