جشاعة اسمها حماية الملكية
يقول ريتشارد إم. ستالمن، العالم الأميركي المتخصص في البرمجيات “لقد صار من المألوف أن توضع حقوق النشر وبراءات الاختراع والعلامات التجارية (وهي ثلاثة كيانات مختلفة ومنفصلة لها ثلاثة قوانين مختلفة ومنفصلة كذلك) في طبق واحد وأن تُسمى ملكية فكرية”.
ويضيف أن “هذا المصطلح المضلل والمشوش لم ينتج عن مصادفة محضة، فقد روجته الشركات المستفيدة من اللغط، وأفضل وسيلة للتخلص منه تكمن في رفض المصطلح جملة وتفصيلاً”.
الواضح أن خلطا والتباسا كبيرين قد رافقا مسألة الحقوق الفكرية، ونتج عن ذلك نوع من التضليل على المستويات الحقوقية والاقتصادية والفكرية، فحيـاة الملايين من فقراء هذا العالم مهددة بسبب قوانين حماية حقوق الملكية الفكرية للأدوية التي أمست واقعاً حتميا تدافع عنه الدول، ويدخل في الاتفاقيات الدولية وتحميه منظمة التجارة العالمية.
إن احتكار شركات تصنيع الدواء الكبرى لبراءات اختراع تصنيع الأدوية نتج عنه حجم أضرار كارثية، فمن يعطي الحق لجهة حرمان الفقراء من الحق في التداوي؟
كيف يمكن تحقيق هدف توفير العقاقير الطبية، وخصوصاً الضرورية منها، بأسعار مناسبة لشعوب الدول النامية، دون إيجاد حل للصراع الدائر بين الربحية التجارية التي تحميها حقوق الملكية الفكرية الدولية، وبين الحاجة الماسة إلى هذه العقاقير من قبل شعوب وأفراد يسيطر الفقر المدقع على جميع جوانب حياتهم؟
ما هي العوائق التي تحول دون توفر الدواء الرخيص الذي يناسب ظروف الملايين من الفقراء في العالم؟ وما هي الحلول الممكنة لمشكلة احتكار الشركات الكبرى الحق في تسعير الدواء؟ أين مصالح الدول النامية؟ فقد اتهمت منظمات غير حكومية الدول الغنية بتقويض اتفاق لمنظمة التجارة العالمية، يمنح أفقر دول العالم حرية الوصول إلى الأدوية الرخيصة ضد أمراض معينة، خصوصاً مرض الإيدز.
هذا الجشع المقنن قد طال مجالات عدة في التعليم والثقافة في عالم يزداد فيه الغني غنى والفقير فقرا بسبب هذا التزوير الذي يسمونه {الملكية الفكرية}
الدول الأعضاء في منظمة التجارة أقرت اتفاقا في عام 2001، تُمنح بموجبه الدول الفقيرة، المُهدَّدة بسلسلة من الأمراض، “استثناءً مؤقّتاً” من شروط براءات الاختراع الواردة في القوانين الدولية المعنية بحماية حقوق الملكية الفكرية في مجال الأدوية، لكنها لم تف بالتزاماتها، إذ أعلنت مؤسسة “أوكسفام” البريطانية، المعنية بالدفاع عن المصالح الاقتصادية للدول النامية، أن الدول المُتقدِّمة “لم تعمل شيئاً، لتلبية التزاماتها في الاتفاق، بل أنها قوَّضت في بعض الحالات بنود هذه الاتفاق”، متهمة الولايات المتحدة باتباع سياسات تجارية تتعارض مع اتفاق 2001، عندما فرضت شروطاً قاسية على تطبيقات براءات الاختراع في مجال الأدوية، خلال مفاوضاتها الثنائية مع العديد من الدول النامية، لإبرام اتفاقيات للتجارة الحرّة معها.
وأفادت المنظمة في بيان لها، بأن اتفاق التجارة الثنائية بين الولايات المتحدة وكولومبيا يجبر الأخيرة على إنفاق مليار دولار إضافي سنويا، اعتباراً من عام 2007 إلى عام 2020، لشراء أدوية محمية ببراءات الاختراع، في حين أن بمقدور كولومبيا الاستفادة من اتفاق منظمة التجارة الذي يتيح لها حقّ الحصول على أدوية مُنتجة محليّاً، أو من دول نامية أخرى، مستثناة من قوانين حقوق الملكية الفكريّة.
من جهتها، أعلنت مُنظمة أطبّاء بلا حدود الفرنسية أن أسعار الأدوية سجَّلت ارتفاعاً كبيراً خلال السنوات الخمس التي أعقبت اتفاق قطر، داعية إلى إجراء إصلاحاتٍ عاجلة لحقوق الملكية الفكرية لضمان منافسة الأدوية المُستَنسَخَة للأدوية الجديدة المُنتَجة مِن قِبَل المؤسسات الدوائية العالمية. وتعالج منظمة أطباء بلا حدود أكثر من 80 بالمئة من مرضاها البالغ عددهم 80.000 بأدوية مصنعة في الهند التي تنتج أدوية بأسعار مخفضة في متناول الملايين من المرضى في الدول النامية، وأكثر من نصف الأدوية المستخدمة اليوم لعلاج مرض نقص المناعة المكتسبة (الإيدز) تصنع في الهند.
كان هذا على مستوى الأدوية التي ليست في متناول الفقراء، وتدعي الشركات المصنعة أنها تخصص مداخيلها الضخمة لصالح الأبحاث مبررة تهافتها على الربح دون مراعاة ضعاف الحال.
أما عن “بعبع الملكية الفكرية” على أصعدة أخرى فحدث ولا حرج، ذلك أن هذا الجشع المقنن قد طال مجالات عدة في التعليم والثقافة وشتى الميادين الأخرى في عالم يزداد فيه الغني غنى والفقير فقرا بسبب هذا التزوير الحقوقي الذي يسمونه “الملكية الفكرية”.
لا يمكن إنكار براءات الاختراع وسلب المبدعين حقوقهم المشروعة، لكن في المقابل لا يمكن السكوت عن هذه العجرفة التي تمارسها الدول الغنية على الدول الفقيرة فتحرم الفقراء من حقهم في الاستفادة من إنجازات البشرية وتقدمها.