جماعة الإخوان المسلمين… صراعات بعد البنا (خليل علي حيدر)
خليل علي حيدر
كيف تعاملت جماعة «الإخوان» مع اغتيال مرشد الحركة السنة 1949، وما الآثار التي تركها رحيله العنيف المفاجئ؟ إذ لم تفقد الجماعة باغتيال حسن البنا منظمها فقط، يقول طارق البشري «بل فقدت مفكرها وراسم سياستها، ومحدد أهدافها».
وسرعان ما انجلى الموقف بظهور ثلاثة تجمعات: محافظ على رأسه شقيق المرشد «عبدالرحمن البنا»، ومتطرف على رأسه «صالح العشماوي» ومعتدل من قياداته د. حسين كمال الدين وأحمد حسن الباقوري، «وكانت مجموعة الوسط المعتدلة هي المجموعة ذات الثقل الأكبر، فعملت على اختيار مرشد عام يتفق هواه مع سياستها» [الحركة السياسية في مصر، ص 368].
ظهر في هذه الفترة تنافس شديد على الزعامة، خصوصاً بين صالح العشماوي وعبدالرحمن البنا وعبدالحكيم عابدين ومحمد محمد فرغلي، كما ظهرت الصراعات بين الجماعة وبين الجهاز السري فيها، «وكان هذا الجهاز قد كوّنه حسن البنا سنة 1942 ليكون كتيبة عسكرية سرية مسلحة يُختار أعضاؤها من الشباب المتحمس، ويُدربون على حمل السلاح والبنادق والمسدسات وإلقاء القنابل، وهو الجهاز الذي قام بالأعمال الإرهابية في السنوات السابقة.
وكان يقود هذا الجهاز حسين كمال الدين وصالح عشماوي وإبراهيم الطيب وعبدالرحمن السندي، ولكنه كان خاضعاً للسيطرة الشخصية للشيخ البنا، فلما توفي أصبح الجهاز مركز قوة خطيرة داخل الجماعة وأصبح يتجه في صراعه مع الكتل الأخرى إلى فرض رأيه واتجاهه بالقوة المادية وأساليب القوة».
يقول د. اسحق موسى الحسيني: «استطاع البنا أن يضع دعوته بين نظامين هما النازية الفاشستية والشيوعية، وهو من جهة سفَّهَ النظامين وحمل عليهما حملات شعواء، وهو من جهة ثانية درس النظامين واستفاد منهما، أخذ من الأول النظام والطاعة، أو في الحق شيئاً يشبه الديكتاتورية وحصره بنفسه، وأخذ من الثاني التكافل بين الطبقات والأخوة الإنسانية»، فتبنى فكرة الضرائب التصاعدية، وضريبة الأيلولة على التركات، والحد من الملكيات الكبيرة، وتوزيع أملاك الدولة على صغار الزراع، واستغلال منابع الثروة إلخ «وهذه جميعها دعا البنا إلى الأخذ بها بصراحة في معرض الدعوة إلى محاربة الشيوعية».
وعن خلافة المرشد بعد اغتيال البنا، نرى أن محمود عبدالحليم، أبرز مؤرخي «الإخوان» يقول: «ترك القائد الدعوة، وهي في أحرج مواقفها، في موقف لا تُحسد عليه». ويضيف عبدالحليم، وسط مبالغة وتهويل معهود في تحليله، أن الذي ساد الموقف بعد تبلور الموقف بعض الشيء تياران. الأول يدعو إلى تعيين أحد ذوي القربى في منصب المرشد، حيث عمل في الجماعة اثنان من أهل المرشد الراحل هما عبدالرحمن البنا شقيقه، وعبدالحكيم عابدين زوج شقيقته، الذي كان تغلب عليه دائماً صبغة صوفية نشأ في أحضانها منذ صغره، كما أنه أعلن عدم إيمانه بمبدأ حق ذوي القربى، وأما الأستاذ عبدالرحمن البنا الساعاتي، شقيق البنا – بما كان يغلب عليه من تشيع لأهل البيت رضوان الله عليهم ومن مغالاة في هذا التشيع – فإنه رأى نفسه ورآه أشقاؤه وبعض أهله وعشيرته أحق الناس بمكان أخيه وشقيقه في الدعوة، ومع أن الأستاذ عبدالرحمن كان يرى هذا الرأي ويعلنه، فإنه لم يرفع راية العصيان في وجه الجماعة».
في مقابل تيار أولي القربى، يقول عبدالحليم، كان التيار الآخر، تيار أولي القوة. «وقد كان إخواننا العاملون في النظام الخاص في دعوة الإخوان يرون أنفسهم يمثلون فريق الأنصار رضوان الله عليهم في الرعيل الأول، وإذا فقد رأوا أنفسهم أحق الناس بأن يكون صاحب هذا المنصب بترشيحهم».
ويمضي مؤرخ الإخوان «عبدالحليم» في شرح ومناقشة ظروف ما بعد رحيل المرشد، وسفر المؤرخ الداعية نفسه إلى الحج، حيث قابل هناك «السيد أبو الحسن الندوي»، أحد زعماء التيار الإسلامي في الهند ومن ذوي العلاقة الحميمة بالمشرق العربي وبجماعة الإخوان، فعرض على «الندوي» فكرة ترشيحه لمنصب المرشد العام للإخوان المسلمين.
إلا أنه اعتذر عن قبول المنصب لأسباب، ثم رجحت كفة القاضي حسن إسماعيل الهضيبي كمرشد جديد حيث «لقي هذا الاتجاه ارتياحاً من جماهير الإخوان لأنهم مع اقتناعهم بجدارة الرجل، فإنهم كانوا يرون في اختياره مصالحة مع القضاء الذي يعتبرون التصالح معه رد اعتبار للدعوة، وتصحيحاً لوضعها أمام الناس، وكان الأستاذ الهضيبي إذ ذاك مستشاراً بمحكمة النقض والإبرام، وكان قد أصيب بانفجار في شرايين المخ وعولج منه، لكن زملاءه أعفوه من العمل الشاق حتى لا يعاوده المرض، وقد اتصل به بعض أعضاء مكتب الإرشاد وفاتحوه في الموضوع فاعتذر بحالته الصحية»، غير أن الرجل قبل في النهاية المنصب قائلاً: «نزلت على رأيكم، وأسأل الله تعالى أن يعينني، وقمنا جميعاً نعانقه، ويعانق كل منا أخاه.. وكانت جلسة قصيرة عابرة ولكنها كانت جلسة تاريخية فاصلة».
هل كان المرشد الجديد الأستاذ الهضيبي طارئاً حقاً على الوسط الإخواني، ومفروضاً على الجماعة، ومجرد قاض عاش حياة هادئة هانئة قبل أن يدخل معمعة زعامة الإخوان في مصر؟ هذا ما ينفيه مؤرخ الإخوان محمود عبدالحليم، بقوة، ويفرد لهذه «الشبهة» فصلاً كاملاً من الجزء الثاني، في كتابه «الإخوان المسلمون».. فيقول: «يبدو أن الذين كان لهم رأي يخالف رأي الجماعة في اختيار المرشد الجديد، أخذوا في إثارة الشبهة حول الرجل، وقد يسر لهم ذلك أن الناس في ذلك الوقت لم يكونوا يعرفون عن الرجل شيئاً أكثر من أنه قاض كبير».
وقد عايش المؤرخ عبدالحليم المرشد الهضيبي في معتقل «ليمان طرة»، ويقول إن الهضيبي كان يحتفظ بسر أخفاه فترة طويلة، فقد دخل في بدايات حياته «جمعية سرية تعمل ضد الإنجليز، وأقسم على القرآن والمسدس ألا يفشي أسرارها، وكانت هذه الجمعية تنقسم إلى عدة خلايا وكانت الخلايا لا تعرف بعضها، وكانت الخلية مؤلفة من خمسة أشخاص، وكان كل عضو مُكلفاً بأن يجند عضواً آخر، وكان لحسن الهضيبي زميل في الفصل يأتمنه فعرض عليه الأمر، وقال له الهضيبي إن غرضها قتل الإنجليز وعملاء الإنجليز».
وتعرض الهضيبي داخل هذا التنظيم لتجارب قاسية، بل وإلى محاكمة حزبية ذات مرة عندما «أخذوه إلى شقة في بيت مهجور، في حي سحيق، وأدخلوه غرفة مظلمة، وجلس ثلاثة شبان إلى مائدة فوقها قرآن ومسدس وبدأ القضاة السريون يحاكمون حسن الهضيبي»، كما أن التنظيم تورط ذات مرة في خطة انتحارية للهجوم على قسم الشرطة، «وعاد الهضيبي ليلتها إلى بيته بالسيدة زينب وأحرق كل أوراقه، وبدأ يصلي استعداداً لكي يموت شهيداً».
إلا أن هذه الجمعية السرية قررت تأجيل العملية، ولم يتمالك الهضيبي نفسه، فسأل من أبلغه بقرار التأجيل عن موعد التنفيذ القادم وسبب التأجيل «فقيل له إنه ليس من حقه أن يسأل عن السبب، والأوامر ستصدر في الوقت المناسب».
وعندما أطلق «إبراهيم الورداني» الرصاص على «بطرس باشا غالي» رئيس الوزراء يوم 21 فبراير 1910 أمام باب نظارة الحقانية «وزارة الدفاع»، وسقط قتيلاً، «لأنه اتفق مع الإنجليز على الحكم الثنائي في السودان، وأراد تجديد اتفاقية قناة السويس، عرف الهضيبي عندئذ أن جمعيته هي التي اغتالت بطرس غالي».
ميدل ايست أونلاين