جنوح أنثى ولكن
تحتوي المجموعة القصصية “جنوح” للكاتبة سماح محمد علي، على ثماني وعشرين قصة قصيرة، تعلو فيها صوت الأنثى أو المرأة على صوت الرجل، قليلا، فالضمير المؤنث شغل ست عشرة قصة، بينما شغل ضمير المذكر إحدى عشرة قصة، وجاءت قصة واحدة بلغة مشتركة بينهما هي قصة “إزهاق”.
يتفاوت المستوى الفني لقصص المجموعة – كما أرى – حيث من الواضح أن الكاتبة جمعت قديم قصصها مع جديدها لتُصدر تلك المجموعة الأولى التي لم تؤرخ لكل قصة فيها كي نستطيع متابعة نمو أعمالها.
وعلى سبيل المثال البداية كانت تقريرية جدا في قصة “ظل حائط” (ص 24) التي تقول فيها الكاتبة: “حقا إن الزواج سترة، والإنسان يسعى دائما وراء كل سترة، ولكن ليس في هذا الأمر”.
وعلى العكس من هذا نرى بداية قصة أخرى مثل “البرَّاق” التي تقول فيها: “منذ أن وطئت قدماها هذا المحل، وهي تشعر بأن هناك قبضةً شديدة تجذبها وتجذب غيرها”. هذه بداية فنية مشوقة تدفع القارئ أو المتلقي إلى القراءة ليعرف شيئا عن تلك القبضة الشديدة التي تجذب الناس، وما دلالة تلك القبضة في القصة، وما علاقتها بعنوان القصة “البرَّاق”.
في حين تبدأ الكاتبة أحيانا قصصها بالوصف في محاولة منها لرسم ملامح الشخصية التي تحدثنا عنها كما نرى في قصة “قناع” فتقول: “وسيم الخلقة، مهيب الطلعة، دمث الخلق، مبسمه لا يعرف سوى حلو الكلام وعبير الألفاظ .. الخ”.
وهكذا تدلنا البدايات القصصية على معرفة تطور الكاتبة رغم عدم وجود تأريخ للقصص كما سبق أن أوضحت.
وبصفة عامة فإنني أستطيع أن أصف قصص تلك المجموعة، بأنها قصص مدينية، أو قصص تنتمي إلى عالم المدينة الكبرى، مدينة القاهرة، بكل أجوائها وتشابك علاقات أهلها، وشوارعها وزحامها ومترو أنفاقها، ومحلاتها .. الخ. وقد دارت غير قصة في محلات القاهرة، سواء كانت البطلة تعمل في أحد تلك المحال التجارية، أو تتسوق فيها، أو تلتقى بشخصيات معينة في بعضها.
ولعل القصة الأولى بالمجموعة تدلنا على هذا الأمر وهي قصة “جنوح” التي أطلقت الكاتبة اسمها على اسم المجموعة ككل، فكانت دالة من أهم دوال المجموعة. هنا نجد أن البطلة – ولا ذكر لاسمها أو اسم أي شخصية أخرى في القصة – تدور على الفاترينات لشراء الأشياء المحببة إليها، وبعد أن تشعر بالتعب والألم الشديد في قدميها تجلس أمام بوابة أحد المحلات الكبيرة، وهنا يعلو نبض القصة حيث تواجه المانيكان المعروض في الفاترينة، وترغب في شرائه، لأنها أحست بعاطفة نحوه، ما يدل على الحاجة الدائمة للآخر حتى لو كان مانيكانًا، وتحلّق من بعيد أسطورة بجماليون حيث تجاهد بطلة القصة في أن تنفخ في المانيكان من روحها حتى يحس وينبض قلبه بالحياة. وهو نفس الموقف الجمالي الذي اتخذه بجماليون تجاه جالاتيا؛ سواء لدى بجماليون برناردشو أو بجماليون توفيق الحكيم. وهي التيمة التي قام عليها الفيلم الأجنبي “سيدتي الجميلة” ثم المسرحية المصرية الشهيرة بطولة فؤاد المهندس وشويكار.
لكن بطلة قصة سماح محمد علي تصل إلى لحظة يأس مع هذا المانيكان الذي وضعته في حجرتها، وشعرت أنها سجينة زنزانته، وتصف الفاترينة التي رأته فيها بالمعلونة “كنت أبحث عنك منذ زمن قبل أن أراك في الفاترينة المعلونة”. وهنا يتصاعد تيارٌ ما يقع بين المناجاة والمونولوج، هو أقرب إلى المونودراما، حيث تتحدث بطلة القصة إلى المانيكان الذي لا يرد عليها، أو يتجاوب معها، فكأنما تتحدث إلى نفسها في تصاعد نفسي يصل بها إلى درجة غليان الدماء، فتتساقط دموعها بغزارة، ثم ما تلبث أن تحمله وتلقيه بكل قوتها في أحد أركان الحجرة المظلمة، وسط مشاعر جنائزية يعلوها الحزن والألم.
هنا تطل علينا قضية أخرى، ربما لا تقصد الكاتبة الإشارة إليها، ولكن أجواء القصة توحي بها، وهي كيفية تعاملنا العاطفي مع الإنسان الآلي أو الروبوت أو الإنسالي الذي قيل إنه سيسود حياتنا في العقود القادمة، وقد طرح علماء المستقبل أو المستقبليون أسئلتهم حول كيفية تعاملنا مع وعي الإنسالي الذي سيقرر مستقبل الجنس البشري. وهي كما نرى قضايا جديدة من الممكن استثمارها أدبيا وعاطفيا على اعتبار أنها واقع، وليس خيالا علميا.
إن قصة مثل “جنوح” من الممكن أن تكون بداية تعامل واقعي مع مثل هذه القضايا لو تعمقت الكاتبة أكثر في ذلك العالم الذي يبدأ بالمانيكان، ومن الممكن أن ينتهي بـ “الإنسالي”.”
وقد لاحظت في كثير من قصص المجموعة استخدام تقنية طرح الأسئلة، وهذه التقنية ترتبط دائما بالحيرة والقلق والغموض والضبابية لدى شخوص القصص، وهي تعكس حيرة الإنسان المعاصر إزاء الوجود بشكل ما، تجسدها حيرة الأنثى في قصة “أنثى ولكن ..” في قول الكاتبة (ص 17): “بالفعل هي الآن في حيرة .. أتريد رباطا شرعيا يشعرها بأنوثتها كغيرها من الفتيات” أم لا تريد”!”.
أحيانا تطلق الكاتبة الأسماء على شخوصها، ولكن بحساب وذكاء، فهي عندما تطلق اسم “سيد” على بطل قصة “ظل حائط” – على سبيل المثال – فإنها تطلقه على سبيل السخرية والتهكم، حيث نجده شخصا ضعيف الشخصية وليس سيدا.
ومن القصص الجيدة بالمجموعة قصة “في الميدان” التي تحتفي بأحداث ثورة 25 يناير، حيث أصبحت الثورة مجرد ذكرى تستنشق البطلة عبيرها، وترى الشهداء يحومون في ميدان التحرير، حيث قادتها قدماها إلى هذا الميدان الشهير، ويدور حوار وعتاب بينها وبين بعض الشهداء الذين أصبحت قسماتُهم أجمل وأرق مما كانت عليه أثناء الثورة، وجميعهم يرتدون اللون الأبيض، ولكنها عندما تُفيق من الحالة التي تلبستها أثناء زيارة الميدان تحدث المفارقة المدهشة بأن الملابس البيضاء التي تراها أمام عينيها الآن تعلوها نجوم ظاهرة للعامة، في إشارة رمزية واضحة لأفراد الشرطة (في ملابسهم الصيفية) الذين احتلوا الميدان بعد الثورة.
وفي قصة “تلاعُب الضوء والظل” تستخدم الكاتبة تقنية الفلاش باك الوامض السريع، كأنه ومضة وسط الأحداث، حيث الفتاتان الصغيرتان تمرحان أمام منزلهما، وهما الآن بعد أن يكبرا، إحداهما تنتظر المحاكمة على تهمة لا يعرف القارئ عنها شيئا، وينطق القاضي بالحكم “سنة سجن مع الشغل والنفاذ”، ولكن هل هذه القصة مجرد حلم، أم تجسيد للغيرة بين فتاتين جارتين كبرا معا ودبت الغيرة بينهما على شيء أو شخص لا نعرفه، ولكن الكاتبة تنجح في اصطياد مشاعر الغيرة النفسية وتجسيدها عن طريق اللعب الرمزي بالألوان وخاصة اللون الأسود حيث “ثمة ستائر سوداء تنسدل وتنغلق أمامها تسد عليها كل سبيل”.
وعلى الرغم من أن النهاية غامضة نوعا، إلا أنها تحمل تشويقا، فبعد أن أوهمتنا الساردة أن ما حدث هو مجرد حلم استطاعت أن تُفيق منه، توقظها والدتها وتخبرها بأن هناك من ينتظرها بالخارج، فتخرج من حجرتها في حالة اطمئنان فتعود صدمتها من جديد.
فهل ما شاهدته في الحلم أصبح حقيقة، هل عادت صديقة طفولتها التي حُكم عليها بالسجن لمدة عام مع الشغل والنفاذ، لتزورها في منزلها، أم مَنْ كان ينتظرها بالخارج هم أفراد الشرطة الذين سيقبضون عليها؟ نهاية مفتوحة تحتمل كل التأويلات والتساؤلات التي تصب في صالح تلك القصة الجيدة.
بعد سبع قصص تحمل صوت الأنثى، يتصاعد صوت الرجل في قصة “لم يحتمل”، وهي أيضا ترصد وتصف أحداث ثورة 25 يناير، ولكنها في الحقيقة لم تقدم جديدا عما نعرفه عن تلك الثورة، وتتشابه مع معظم ما كتب من إبداع عن اندلاع الثورة.
بينما تأتي قصة “بين شقي الرحى” لتعالج قضية ولاء الرجل يكون لمن: للأم أم للحبيبة؟ “أخسرُ أمي أم أخسر من أُحب؟” ويحمل هذا السؤال عقدة القصة في لغة جيدة وسلسة، ولكن تذكرنا النهاية بقصة إحسان عبدالقدوس أو بفيلم “أبي فوق الشجرة” لعبدالحليم حافظ ونادية لطفي وعماد حمدي الذي لعب دور الأب فأغوته الراقصة التي ذهب إليها ليخلص ابنه منها، فإذا به يقع في حبالها، وأيضا فكرة القصة تتماس مع فكرة فيلم “غرام الأسياد” لبني عبدالعزيز وعمر الشريف وأحمد مظهر، حيث وقع أحمد مظهر في حب الفتاة (التي كانت تعمل عندهم في الاسطبل) والتي حذر أخاه عمر الشريف منها.
وفي قصة سماح محمد علي يقع الأخ الأكبر في حبال حبيبة أخيه التي ذهب إليها بإيعاز من أمه لتبتعد عن أخيه فعاد لأمه قائلا في ص 50: “فتاة مثالية يا أمي، لم أستطع من حسن خلقها أن أهددها، ولم تعط الفرصة لذلك. اطمئني يا أمي حدث ما أردتيه. وعدتني بالبعد عن ابنك الأصغر بعدما تصبح زوجتي”.
البحث دائما عن الشريك هو هاجس معظم قصص “جنوح” ويبرز السؤال عن هذا الشريك في قصة “في المترو” ص 51 حيث تسأل الفتاة – التي بدون اسم أيضا – نفسها قائلة: “ما الذي ينقصها كفتاة حتى تكتمل حياتها” حتى تجد نصفها الآخر .. الشريك المنتظر؟”، لتفجر الكاتبة بذلك قضية مجتمعية عصرية خطيرة وهي عزوف الشباب عن الزواج، فلم يعد من أولوياتهم ذلك الرباط المقدس كما كان من قبل، وتقول: “لم يصبح لديهم سوى إضاعة الوقت على المقاهي وأمام شاشات الكمبيوتر والحديث مع الفتيات عبر شبكات الإنترنت، أو التعرف على فتيات رخيصات ومواعدتهن”.
وعلى الرغم من ضعف تلك القصة فنيا، بما تحمله من مباشرة وتقريرية، إلا أنها تحاول أن تغوص في مشاكل ومظاهر مجتمعية يلمسها الجميع، وهو ما يُحسب لها، لكنها لم تنجُ من لغة المقال الصحفي في مثل قولها: “كنا نرى الشباب في الماضي يكتفون بما تحمله أيديهم دون تبرم أو سخط على المجتمع، يرضون بحياة بسيطة يملؤها الحب والمودة والسكن .. زوجة صالحة تشاركه دون التقيد بشقة فاخرة”.
ويبدو أن هذه القصة من الكتابات الأولى للكاتبة، لأنها استطاعت في قصص أخرى أن تنجو من تلك المباشرة والتقريرية ولغة الصحافة اليومية.
وأتوقف عند نهاية تلك القصة التي استطاعت أن تغلقها الكاتبة بفنية عالية رغم ما قلناه عنها، حيث تقول في ص 52: “تصل إلى محطتها، ولا بد من النزول.. تحمل حقيبتها وتهبط من المترو، تلقي نظرة عابرة عليه، وهو يترك المحطة”. وكأن قطار المترو هو عمرها الذي كان يسير على قضبان دون أن يجد الراكب المطلوب أو المرغوب، فتترجل الراكبة عنه، دون أن تحقق ما تتمناه، ويغادر محطتها دون أي أسف أو كلمة مواساة.
وعلى الرغم من أن قصة “قناع” من القصص ذات الوصف الجيد وجاءت بلسان الرجل، إلا أنها لم تحقق المفاجأة للقارئ، ولم تنجح في خلق حالة من الدهشة، وفي رأيي أن الموسيقي الذي يُلقي النكات التي تتبعها القهقهات في الملهي الليلي ثم يفتح حقيبته ويُخرج آلته الموسيقية لم يلبس قناعا، ولم يتعامل مع الآخرين على أنه شخصية أخرى مهمة، وكونه وسيم الخلقة، مهيب الطلعة، دمث الخلق ..
الى آخر تلك الصفات، وأنه لا يقابل أحدا سوى بموعد سابق، لا يعني أنه يرتدي قناعا يداري به على وظيفته كعازف أو موسيقي، أو أنه يدعي غير ذلك، ولكن هذه كانت مجرد أوهام تبدت لدى السارد الشاب الذي أراد أن يُسبر أغوار تلك الشخصية التي لفتت انتباهه في مواعيد ذهابه إلى الملهى وعودته منه، فيحاول أن يتلصَّص عليه، ومن هنا أرى أن عنوان القصة “قناع” في وادٍ وموضوعها في واد آخر، ممكن اقترح عنوانا آخر مثل “تلصُّص”، أو “حب استطلاع” .. وما إلى ذلك.
من مزايا تلك المجموعة القصصية نجاح الكاتبة في رسم الأوصاف والملامح الجسدية لشخوصها، وقد تبدى ذلك في أكثر من قصة منها قصة “جسر من زجاج” التي تصف فيها العريس بأنه في غاية الوسامة والشياكة ذي قوام ممشوق.
وفي هذه القصة تعالج الكاتبة مسألة غيرة الصديقات من بعضهن البعض وخاصة عندما تُرزق واحدة منهن بعريس ذي مواصفات تعجب صديقتها فتخطط للحصول عليه، وكأنه سلعة تباع وتشترى بالعواطف الكاذبة، وبالفعل تنجح الصديقة في جذب انتباه عريس صديقتها التي تصفها بالبلهاء وغير الجميلة، وتقول في ص 67 بأنها “تحمل من جمال الوجه القليل، والذي يكاد يختفي من أسلوبها ونظراتها غير المستقرة”، وتنتهي القصة بنجاح الصديقة في الإيقاع بزوج صديقتها عندما تقول الكاتبة: “يده تلامس يدها بلطف وحنان”.
إن الكاتبة سماح محمد علي تصور لنا في قصصها قطعا من الحياة اليومية الروتينية والمملة، وتحدثنا عن ناس المدينة الغرباء بعضهم عن بعض رغم الصداقة الظاهرية أحيانا، وهنا تكمن أزمة الإنسان المعاصر ابن المدينة التي تحجر قلبها، والتي وصفها أحمد عبدالمعطي حجازي في أول دواوينه بأنها “مدينة بلا قلب”.
ولأن إنسان المدينة أصبح مسحوقا وبلا قلب، فإنه يلجأ أحيانا إلى مصاحبة الحيوان واللعب معه والعطف عليه، وهو ما نراه الآن في مصاحبة الكلاب وخاصة لدى الطبقات الثرية التي أصبح الكلب أو القطة أو النسناس عندها أهم من الإنسان في الكثير من الأحيان، وهو ما تجسده قصة “توتة” حيث تصور الساردة استمتاعها برؤية قطها وهو يلعب بكرة الصوف في حيوية “وتتضاحك كلما وجدت منه هذه الألعاب البهلوانية، مبهورة مما أبدعه الله فيه من حُسن خلق وخفة ظل وعينين خضراوين وشعر أشقر وأنف دقيق مدبب”، هكذا تجد الساردة سعادتها مع الحيوان وليس مع الإنسان، الأمر الذي يدلنا بطريقة معاكسة على أزمة الإنسان مع بني جنسه، بينما لا توجد أي أزمة مع الحيوان الذي صار يحبه ويلاعبه ويصاحبه ويسعد به أكثر من مصاحبة إنسان مثله. ونلاحظ هنا أيضا دقة الوصف ورسم الملامح الجسدية للقط، وهو ما نجحت فيه الكاتبة من قبل في وصف الأجساد البشرية وملامحها.
ومن القصص التي تواكب حياتنا المعاصرة وترصدها بدقة قصة “خداع” وهي آخر قصص المجموعة، حيث ترصد الكاتبة أمراض التواصل الاجتماعي وخداعها عبر شبكة الإنترنت، وهي من القصص التي تأتي بصوت الرجل، من خلال ضمير الغائب، فبعد أحاديث الماسنجر العادية على موقع فيس بوك، يتطور الأمر إلى شعور عاطفي تجاه الأنثى التي يحادثها بطل القصة الذي كما اعتدنا ليس له اسم ولا حتى البطلة التي أصبح لا غنى عنها حيث “صار لا يستغنى كل منهما عن الآخر”، وعندما أراد أن يراها بعد ستة شهور من الصداقة على فيس بوك، لم تعترض وتواعدا على اللقاء في إحدى المولات المشهورة، وأخذ يتخيلها، وتكون المفاجأة التي لم تفصح عنها الكاتبة مباشرة ولكن تركتها لحدس القارئ عندما أنهت القصة بقولها: “ينظر إليها فاغرا فاه، طويت الصحف”.
نهاية مفتوحة على جميع التأويلات، هل كانت قبيحة، هل كانت غير أنثى، هل وهل .. ؟ وهنا تكمن روعة النهاية المفتوحة التي تجعل القارئ يكمل أحداث القصة حسب خياله وثقافته وتعاطيه الأدبي.
ودائما تأتي نهايات قصص الكاتبة نهايات مشوقة أو غامضة، وخاصة قصص: “تلاعب الضوء والظل”، و”جحود”، و”حنان قاتل”، و”في المترو”، و”شعاع مدلهم”، و”إزهاق”، و”خداع”.هناك بعض القصص التي حملت مشروع رواية طويلة، ولم تحمل سمات القصة القصيرة مثل قصة “إزهاق” التي كان فيها الزمن زمنا روائيا وليس زمنا قصصيا، فقد نشأ الشاب والفتاة على تآلف روحيهما، ثم كبرا، وتقدم الشاب لخطبة الفتاة، وأعلنت العائلتان الخطبة وعلت الفرحة، وسافر الشاب للعمل في إحدى الدول العربية، ثم عاد ليعقد القران، ولكن يتعرض لحادث سيارة ويموت، بعد أن وضع فيها بذرة طفل قبل ليلة الزفاف، فكيف ستتصرف فتاة القرية (ولعلها القصة الوحيدة التي نجد فيها ملامح أخرى غير ملامح المدينة) ويعرف الأب بما حدث حيث تم البناء (أي المعاشرة الزوجية) دون علمهم وتوفي الفتى، فكيف سيواجه الأب أهل قريته، جفاه النوم، لحقه العار ..
الى آخر هذه الأحداث والمواقف التي تصلح في رواية لكنها لا تصلح أبدا لقصة قصيرة. ولكن دائما النهاية عند الكاتبة تأتي جيدة ومشوقة، حيث نقرأ في ص 77 “فتحت الأم باب الحجرة ببيد مرتعشة، صرخت .. لطمت وجهها .. شقت جيبها من هول ما رأت”. وليتخيل القارئ ماذا رأت الأم في حجرة بيتها، هل انتحرت الفتاة، هل أجهضت نفسها، هل وضعت طفلها .. وهل وهل؟
أيضا قصة “الطاووس” نلاحظ أن زمنها زمن روائي وليس زمنا قصصيا.
ولنتوقف عند قصة أعتبرها خارج السياق القصصي للمجموعة، وهي قصة “قبل أن أموت” والضمير فيها عائد على اللغة العربية التي تتحدث عن نفسها بضمير المؤنث، ويبدو أنها كُتبت في إحدى المناسبات التي نحتفل فيها باللغة العربية مثل اليوم العالمي للغة العربية، وهي تذكرنا بقصيدة حافظ إبراهيم التي يقول في مطلعها:
“أنا البحر في أحشائه الدر كامن ** فهل سألوا الغواص عن صدفاتي”.
وبمناسبة اللغة فإن المجموعة القصصية التي نحن بصددها تخلو من الأخطاء اللغوية عدا جموع التكسير وصيغة منتهى الجموع التي صرفتها الكاتبة وهي ممنوعة من الصرف أي لا تنون، مثل أساليب، كُتبت “أساليبا” (ص 40) وملابس، كتبت ملابسا (ص 28) و(ص 58) وهكذا.
على الغلاف الداخلي للمجموعة وجدت توصيفا يقول “قصص قصيرة وقصيرة جدا”، وفي الواقع لم أجد قصصا قصيرة جدا بالمجموعة، فكل قصصها قصص قصيرة فقط، ولم أجد قصة قصيرة جدا واحدة، ويبدو أنها كانت هناك مجموعة قصص قصيرة جدا وحذفتها الكاتبة، ونسيت أن تحذف ذلك في التوصيف.
ولكن بصفة عامة نحن بإزاء مجموعة قصصية جيدة، لكاتبة جديدة، نهنئها ونتمنى لها مزيدا من الإبداع والتجويد والوقوف على أدق أسرار فن القصة القصيرة، وهو فن ممتع وشائق وصعب في الوقت نفسه.
ميدل ايست أونلاين