كتب

جهاد الرنتيسي يلاحق التغريبة الفلسطينية المتجددة

مهدي زلزلي

في روايته «شامة سوداء أسفل العنق» (المرايا للثقافة والفنون ـ القاهرة) يلاحق جهاد الرنتيسي عبر شخصيته الرئيسية جواد الديك، طالب الفلسفة في جامعة الكويت والعضو في تنظيم سري منشق عن حركة «فتح»

في روايته «شامة سوداء أسفل العنق» (المرايا للثقافة والفنون ـ القاهرة) يلاحق جهاد الرنتيسي عبر شخصيته الرئيسية جواد الديك، طالب الفلسفة في جامعة الكويت والعضو في تنظيم سري منشق عن حركة «فتح»، الشتات الفلسطيني المتجدد من بيروت إلى الكويت إلى دمشق.

وتشكل الرواية التي تُعدّ الجزء الثالث وقبل الأخير في رباعية ضمّت حتى الآن روايتَي الرنتيسي «بقايا رغوة» و«خبايا الرماد»، محاكمة روائية جريئة لحقبة سياسية صاخبة في التاريخ الفلسطيني الحديث.

من ياسر عرفات إلى نور الشريف

ضمن إطار سردي محكم، ينجح الكاتب في جمع مزيج من الشخصيات الحقيقية مثل رشاد الناجي، وباسم سرحان، وماجد أبو شرار، ورضا صالح، والياس شوفاني، وصلاح التعمري، وصبحي الحسن، وعبد الله الدنان وجورج طعمة، مع شخصيات أخرى متخيلة مثل رحيّم وأم عامر وأماني وفدوى وإقبال وغادة الأسمر، مع حضور عابر وغير مقحم لشخصيات بارزة من أهل السياسة والفن والأدب في ذلك الزمان مثل ياسر عرفات، ومحمود درويش، وحافظ الأسد، وعبد الحليم خدام، ونور الشريف ومحمد أوفقير، ومهدي بن بركة، ولطفي الخولي وفؤاد زكريا.

ولكن هذا الكم من الشخصيات الحقيقية والأحداث الواقعية والتقاطعات الكثيرة بين حياة الكاتب – الذي خرج من الكويت إلى عمّان مع حرب الخليج الأولى – وبطله جواد الديك، لا يجعل من «شامة سوداء» سيرة ذاتية، كما لا يجعل ذلك الكم من المعلومات التاريخية النص محاولةً توثيقية جافة، إذ ينجح الكاتب بين هذه وتلك في الحفاظ على انسيابية السرد وتصاعد الحدث نحو ذروته.

التنقّل بين الأزمنة

ومن الشامة السوداء في ظهر الطفل غيث، الذي قدِم جواد من الكويت إلى دمشق للاكتفاء بمراقبته من بعيد داخلاً إلى مدرسة «اللاييك» وخارجاً منها إلى سيارة عسكرية تنتظره، يكبر السؤال حول هوية الطفل وعلاقته بجواد وبالضابط الذي يفترض أنه والده، وبغادة التي تملك شامة سوداء في عنقها، أو بجمانة التي تملك عنقاً يشبه عنق جين فوندا، قبل أن تحمل العودة إلى لقاءات جواد وجمانة البيروتية في «البريستول» ثم في فردان، الجواب في الفصول الأخيرة من الرواية القصيرة.

من قبوه في دمشق يراقب جواد الأحداث وينقلها إلينا، متنقلاً بين أزمنة متعددة ومتقاربة حيث تدور أحداث الرواية بين ثمانينيات وتسعينيات القرن الماضي، ومعلقاً على أحداث ذلك الزمان وشخصياته، مرة على لسانه ومرة على شكل رسائل متبادلة بين صديقه سعد الخبايا وبين صديقة جين فوندا، الممثلة البريطانية المناصرة للفلسطينيين فانيسا ريدغريف.

وخلافاً لمعظم شخصيات الرواية، لا يعود اسم سعد الخبايا إلى شخصية فلسطينية حقيقية من ذلك الزمان، بل إلى شخصية متخيلة، مستوحاة من مدة زمنية تمتدّ من العاشر من آذار (مارس) من كل عام حتى الثاني والعشرين منه، وفقاً لتقسيم الفلاحين في بلاد الشام لفصل الشتاء الذي يشمل أيضاً «سعد السعود» و«سعد الذابح» و«سعد البلع» و«المستقرضات». ويتفق هذا الاسم «الخبايا» مع الطابع السري والأمني لحياة الشخصية ومهماتها.

أما ريدغريف «الهاربة من رواية تبحث عمّن يكتبها» على حدّ وصف جواد، فتحتل مساحة واسعة من السرد، عبر زياراتها المتكررة للكويت وبيروت في إطار سعيها مع جهات كويتية وفلسطينية إلى إنتاج أفلام عن القضية الفلسطينية.

القضية الفلسطينية في الغرب

وعبر تداعي أفكار جواد، والرسائل المتبادلة بين فانيسيا وسعد، نعرف الكثير عن دورها في التصدّي للتحريض على الفلسطينيين ومحاولات تشويه قضيتهم في الغرب، والضغط على مراكز القرار للحد من أثر التغول الصهيوني، وتوفير الحقائق الغائبة عن رجل الشارع الغربي، ووضع العالم أمام مسؤوليته الأخلاقية، سواء عبر فيلمها «الفلسطيني» وحراكها الفني والإعلامي، أو عبر نشاطها السياسي في حرب العمّال البريطاني.

وبالطريقة ذاتها نتعرّف إلى علاقة جواد السرية مع أم عامر، التي شكلت سبباً لانزعاج سعد الخبايا الذي كان يعوّل كثيراً على جواد، ويرغب في نتائج أخرى لتغلغله في سهراتها، أكثر نفعاً للتنظيم وعمله السري.

تجريب وضياع

ويعمد الكاتب إلى التجريب عبر اعتماده على امتداد صفحات الرواية وفصولها التناوب المكثف بين السرد والحوار، وبين حركة الشخصيات وكلامها من دون استخدام أفعال القول أو ما ينوب عنها ويشير إليها، وهو ما قد يعدّه قارئٌ ميزةً للرواية وواحدة من نقاط القوة فيها، بينما قد يرى قارئ آخر أنّ ذلك من شأنه أن يضعف السرد ويرهق القارئ ويدفعه إلى بذل جهد مضاعف لفهم السياقات وإعادة الضمائر المتعدّدة إلى الشخصيات التي تخصّها.

«شامة سوداء أسفل العنق» التي تدور أحداثها بين بيروت والسالمية وحوَلّي ودمشق ومخيم اليرموك، وتمرّ على ذكريات الفلسطينيين في لبنان، من تعنايل في البقاع وصوفر وسوق الغرب في الجبل إلى طرابلس في الشمال وصيدا في الجنوب، هي في آنٍ واحد عمل أدبي ممتع ووثيقة تاريخية على قدر كبير من الأهمية لكل الفلسطينيين والكويتيين واللبنانيين وسواهم من العرب ممّن عاشوا تلك الحقبة أو سمعوا وقرأوا عنها، فالعودة إلى الماضي يمكن لها أن تكون – كما إلغاء المسافة بين الأغاني والحكايات في عُرف فانيسيا ريدغريف – وصفة لمواجهة شرور هذا العالم.

صحيفة الأخبار اللبنانية

 

لزيارة موقع بوابة الشرق الاوسط الجديدة على الفيسبوك

لزيارة موقع بوابة الشرق الاوسط الجديدة على التويتر

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى