جيروم فيراري يكتب «المبدأ» بين شكٍّ ويقين

بعد روايات عدّة مثل «في السرّ» و«ألف صفر» و«بالكو إتلانتو» و«حيث تركت روحي» و«خُطبة في سقوط روما» الفائزة بجائزة غونكور عام 2012، أصدر الروائي الفرنسي جيروم فيراري (47 سنة) روايته الجديدة «المبدأ» (آكت سود – باريس)، وقد راوح السرد فيها بين سيرتيْن: أولاهما غَيْريّةٌ للعالِم الألماني فرنر كارل هيزنبرغ (1901 – 1976) أبِ الفيزياء الكميّة، وثانيتهما ذاتيةٌ وإنْ تخفّى فيها الكاتب وراء شخصية بطلها.

تبدأ سيرورة السرد في الرواية (164 صفحة) بتكفُّلِ طالب فلسفة بتحديد أسباب الشرور التي عرفها العصر الحديث عبر سبيل تحليل نصّ تاريخي حول «مبدأ الشك»، الذي قال به عالِم الفيزياء الكمية النُّوبلي «هيزنبرغ»، وذلك ضمن عرض شفويّ يروم تقديمه خلال امتحان نهاية العام الدراسي 1976. غير أن هذا الحدث، وإن بدا باهتاً ومألوفاً، سيكون سبيل القارئ إلى التوغّل في شعاب مغامرة سرديّة تقوده فيها مخاطباتُ الطالبِ التي يُوجّهها لهذا الفيزيائي في كثير من النزوع إلى الحفر في سيرته وملء فراغاتها التاريخيةَ بالاتكاء على ما وفّر له الكاتب من وثائق مكتوبة ومعلومات أفاده بها ابن هيزنبرغ نفسه. هي مغامرة تتجاوز فيها الرواية جانبَها التأريخيَّ لتجعل من حياة هذا الفيزيائيّ محطّاتٍ يمتزج فيها اليقين بالشك، والعلم بالصدفة، وفرضيات الفيزياء بروح الشِّعر وأجواء الصوفية التي اطّلع عليها الكاتب ضمن محطات معراج العراقي محمد بن عبد الجبار بن حسن النفري المذكورة في كتابه «المواقف والمخاطبات». ولعلّ هذا ما جعل الرواية تتناصّ في عتبة عنوانها مع «مبدأ الشكّ» الهيزنبرغي الذي فنّد يقينيات الفيزياء الكلاسيكية. بل وتلوذ به سبيلاً إلى إظهار ضعف الإنسان أمام إدراك حقيقة العالَم، لا بل وإلى كشف عجز اللغات البشرية عن توصيف الظواهر الفيزيائية المتناهية الصغر. ولعلّ هذا ما حفّز لغة هيزنبرغ – وفق ما تُحيل عليه الرواية – على التماهي بلغة الشعر في استعاراتها ومجازاتها، وقد جعل هذا العالِم الفذّ يجمع في شخصه بين مهنة الفيزيائي وأحلام الشاعر، وجعل رواية فيراري جُسَيْمًا يتحرّك في مجرّة الأدب.

تحديات الواقع

توزّعت الرواية على أربعة أقسام تكفّلت الثلاثة الأولى منها بسرد سيرة الفيزيائي هيزنبرغ في سقوطه من عرش العلم صوب إكراهات الواقع، وما صاحب ذلك من اختلاف آراء الناس حول علاقته المشبوهة بالنظام النازي. بينما أضاء القسم الرابع على محطات من سيرة الراوي الذاتية التي نُلفي لها صلة بسيرة جيروم فيراري ذاته. ولئن حرص الراوي على نقل خطابات هذا الفيزيائي ومراسلاته من دون تحوير فيها، فإنه عمد إلى التصرّف في وجوه عديدة من سيرته، والانتصار في تسريدها لِمَا رجّح أنه يليق بعالِم ذي توق كبير إلى التسامي بكيانه والإعراض عن المنافع والغايات السياسية الشرّانية. فيبدو كأنّ في تنزيه هذا الفيزيائيّ إدانة للإيديولوجية النازية التي تسبّبت في غزو هتلر لفرنسا، بلد فيراري. ولا شكَّ في أنّ قارئ رواية «المبدأ» سيقف على مجموعة من الأحداث التي نحتت مصيرَ هذا الفيزيائي وكشفت عن ملامح الشاعر الساكن فيه، ومن ذلك أنّ العلم بالنسبة إليه كالشِّعر تماماً. كلاهما يسعى إلى إدراك معنى الأشياء والأحياء باللغة، وكلاهما يعجز عن تحديده بها، وذلك على اعتبار ما ذهب إليه فيراري من أنّ «اللغة تظلّ أداة عاجزة، ولكننا مضطرّون إلى استخدامها لنقول بها شيئاً يستحيل قوله».

لعلّ من أهمّ الأحداث التي أثّرت في مسيرة هيزنبرغ ذهابَه إلى جزيرة «هيليغولاند» للتداوي من مرض الحساسيّة. لقد عاش هناك «لحظة من النِّعمة لا تُنسى»، امتلأ فيها كيانه بجمال الطبيعة، وتبيّن خلالها «طريقاً جديداً نحو الجمال الخفيّ لنظام الكون» الذي «لا نستطيع فيه بلوغ كنهِ الأشياء لأن الأشياء ببساطة ليس لها كنه ثابت». ومن ثمّ نكتفي من معرفتها، إمّا بتتبّع حركتها أو بتعيين مكانها من دون القدرة على الإحاطة بهما معاً وفي الآن نفسه. هذا لأنه «كلما دقّقنا بتحديد موقع الجُسيْم، أخطأنا بحساب سرعته، والعكس صحيح»، وهذا هو جوهر «مبدأ الشك» الذي أحدث به هيزنبرغ عام 1927 قطيعةً علميةً مع الفيزياء الكلاسيكية، وأصّل به حقيقة فيزيائية جديدة ترى أنّ عالَمَ الجسيمات عالَمٌ محكوم بالاحتمالات والصدفة والمفارقات.

ومعلوم أن هذا المبدأ قد لاقى معارضة كبيرة من فئة واسعة من مجتمع العلماء في ذاك الزمن، وعلى رأسهم أينشتاين الذي انتقد هيزنبرغ بقوله الشهير: «الله لا يلعب بالنرد»، ويعني به أنه لا توجد صدفة في العلم. وقد تُوّجت إقامةُ هذا الفيزيائيّ بجزيرة «هيليغولاند» بنيله جائزة نوبل للفيزياء الكمية عام 1932.

غير أن ما ستشهده سنة 1933 من طغيان للناظم النازي وإجباره العلماءَ على المشاركة في مشروع صناعة قنبلة نوويّة، وهو ما دفع كثيراً منهم إلى الهجرة إلى بعض الدول الأوروبية، وجعل آخرين يقعون في أيدي المخابرات البريطانية التي ظلّت تستجوبهم بعد نهاية حرب 1945 عن مدى مساهمتهم في برنامج ألمانيا النازية العسكري. وقد عانى هيزنبرغ من النقد اللاذع الذي وُجِّه إليه بسبب بقائه في ألمانيا خلال حكم هتلر وإدارته معهد «كايزر ويلن» وترؤسه مشروع الأسلحة النووية. وقد مالت الرواية إلى رفع التهمة عن هيزنبرغ في شأن مشاركته في مشروع التسلّح الألماني الذي انتوى هتلر إنجازه، وذلك بتأكيدها جانبَه الإنسانيّ الذي دفعه إلى التهرّب من هذا المشروع بتعلّة ارتفاع تكلفته المادية وقلة الخبراء. ولم تنِ الرواية تحرصُ على توصيف الحيرة التي عاشها هيزنبرغ زمن هتلر وظلّ يتقلّى بسببها على جمر خيبته من خطايا البحوث العلمية التي تبدأ دوماً إنسانية و«عاشقة» وتنتهي دائماً كارثية على غرار ما عرفته مدينة هيروشيما اليابانية من فاجعة بشرية مهولة سبّبها ضعفُ الضمير الإنساني وطفرة العلم آنذاك.

جمال مفقود

في القسم الرابع والأخير من الرواية، يتكفّل الراوي، طالبُ الفلسفة، بسرد سيرته الذاتية التي تتماهى بسيرة جيروم فيراري ذاته من حيث انتمائهما إلى جزيرة كورسيكا، واشتغالهما في مجال الفلسفة، وإقامتهما في مدينة دبي في الإمارات. إذْ يعود بالقارئ إلى الزمن الحاضر، وبالتحديد إلى مدينة «دُبي» التي هجرها بعد إقامته فيها، ليصوّر تغوّل التكنولوجيا وسيطرتها على الواقع الطبيعي، بل وعلى مخيال الناس الثقافي، حيث اختفت الصحراءُ بكل فتنتها ونهضت مكانها أبراجٌ عالية صمّاء مثل برج خليفة، وحيث خَفَتَ بريقُ شِعر المتنبّي، ذاك الذي افتتن الناس بلُغته وصُوره وجِدّة معانيه، ليصير الآن ذابلاً في الذاكرة، فلا يُحيل إلاّ على كلّ ما هو منسيّ من مفردات الثقافة والتاريخ. لكنّ عودة الراوي إلى زمن الحاضر لم تكتفِ بالتحسُّرِ على الجمال المفقود فحسب، وإنما فتحت للقارئ آفاقاً رحبة على الأمل: الأمل في مشاعة العلم، والأمل في تنبّه الإنسان إلى خطايا استعمالاته للمعرفة.

وما نخلص إليه من قراءة رواية «المبدأ» لجيروم فيراري هو القول إنّ من سوء حظّها أنها جاءت بعد روايته «خطبة في سقوط روما» التي بلغ فيها صاحبها فتنةَ السرد. ذلك أن شعرية لغتها الساردة التي تجلّت بخاصة في جزئها الأخير، وكثرة استعاراتها ومجازاتها – التي نجح فيراري في جعلها تُلامس حدودَ لُغة المتصوّفة – أمران لم يشفعا لها في أن تُحقّق إضافة مائزة إلى مسيرة هذا الروائي الأدبية. فظلّت الرواية عملاً إبداعياً مُستعصياً على فهم القارئ العادي بسبب كثرة إيغالها في نظريات الفيزياء، وتنامي حمولتها السيرذاتية التي أوهنت فيها فعلَ التخييل وأفقدتها حرارةَ المُغامرة السردية.

صحيفة الحياة اللندنية

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى