حاضريّة فلسطين والقلق الوجوديّ الإسرائيليّ
تُظهر ديناميّات الفضاء التاريخيّ العربيّ بعد مائة عام وعام على سايكس – بيكو، ومائة عام بالتمام على وعد بلفور تواصلاً وطيداً مع ما يحدث في حاضرنا. وللبيان نعرض على الإجمال إلى أربع صُور تختزل المشهد برمّته؛ الأولى، تعكسها رحلة القبول بمشروعيّة الدولة اليهوديّة والرضى بحضورها الفعليّ في عضويّة المنطقة؛ الثانية، تترجمها المُواجَهات الآيلة الى إحياء مقولة العداء لإسرائيل، بما هي كيان قام على تموضُعٍ كاذب في الجغرافيا والتاريخ.
وهو سياق يٌقرأ على وجه الخصوص، في ما يظهر من اختبارات المقاوَمة في فلسطين ولبنان؛ الثالثة، نجدها في ما نجم إلى الآن من ثورات “الربيع العربيّ” التي اجتاحت عدداً من أقطار الوطن العربيّ وألقت بها في متاهات التقسيم والتفتيت بأشكالٍ مختلفة ودرجات متفاوتة؛ الرابعة، وهي الصورة الأشدّ أثراً على شعوب المنطقة وقيمها وتظهر في سياق ما نسمّيه بـ “الحرب على المعنى”. وهذه الصورة تضمّ كلّ ما سبقها، حتّى لتبدو الآن وكأنّها خاتمة الطواف في رحلة الموت المفتوحة.
ولنا أن نرى بوضوح كيف تحرّكت وقائع “الحرب على المعنى” لتعصف بالفضاء العربي عبر ثلاثة اتّجاهات: الأوّل، مُحاصَرة أيّ إحتمال يُنبئ بتغيير جدِّي من شأنه أن يضع شعوب المنطقة على صراط التحرّر الشامل من الاستبداد الداخلي والاستقلال عن الخارج، وكسره. الثاني، استئناف “لعبة التَّجزِئة والتفكيك” كاستمرارٍ للميراث الاستعماري السياسي والثقافي والعسكري. هذه اللّعبة تتجدّد اليوم على شكل حروب متوازية من الاحتلال المُباشر، والمنازعات الأهلية.
الثالث، إشاعة ثقافة فقدان الثقة بالذات لدى شعوب المنطقة، وبثّ مشاعر الخوف والتشاؤم واللّايقين بين أبنائها؛ وهو ما يظهر بصورة جليّة في تبهيت البُعد الوطني والأخلاقي والإيماني لثقافة مقاوَمة الاحتلال، مقروناً بتدفّق سَيل هائلٍ من المواقف والاتّجاهات تتغيّأ إجراء تحويلات عميقة في الوعي العربي العامّ يصل مداه إلى “عقلنة” الأطروحة الإسرائيلية، وجعْلها جزءاً من المدى الحضاري الثقافي والديني والسياسي لشعوب المنطقة.
ما فعله سايكس بيكو كان أشدّ عمقاً وتجذّراً وخطورة على الماضي والرّاهن والمقبل من مجرّد تقاسم نفوذ على جغرافيّات الإمبراطورية العثمانية المُنهارَة. فلسفته العظمى هي إطلاق سيرورة طويلة الأمد من الانسداد الحضاري. ولو عاينَّا البيانات الإجمالية لهذه السيرورة، سنلاحظ جريانها على ثلاثة خطوط مُتلازِمة:
الخطّ الأوّل: منع التحرّر من التبعية وزعْزَعة الأمل بقيام الدولة الأمّة وتحقيق العدل الاجتماعي والديموقراطية في الحياة السياسيّة.
الخطّ الثاني: ترسيخ كيان عسكري استيطاني يحفظ ديمومة التموضُع الإمبريالي في المنطقة العربية، ويضبط أيّ خرْقٍ ثوري استراتيجي لمثل هذا التموضُع. وما كان الوعد البريطاني بوطنٍ قومي لليهود في فلسطين سوى التجلّي الأصيل لأطروحة سايكس بيكو ومقاصدها الكبرى.
الخطّ الثالث: التأسيس لاحترابٍ أهلي مُستدام، عبر جعل الهويّات الفرعية الطائفية والمذهبية والإثنية مادّة لفتنٍ وحروب أهلية لا قرار لها. والمنفسح الدموي الذي نعبره اليوم يدخل دخولاً أصيلاً في المقاصد المُعاصرة لميراث سايكس بيكو. لم تكن فلسفة “الفوضى الخلّاقة” التي اقترفها عقل المحافظين الأميركيّين الجدد سوى تظهير مُستأنف لفلسفة التجزئة التي سرت مفاعيلها في العام 1916، وها هي اليوم تتمدّد إلى كلّ ناحية في أرض العرب.
فلسطين في حمّى المشهد المتمادي
للإجابة عن هذا السؤال، لا بدّ من العودة مرّة أخرى الى أصل الإشكالية الأولى، وهو ما نُلَخِّصُهُ بالسؤال حول إمكان إنجاز التحوّل الديمقراطي في الوطن العربي بمعزل عن التصادم مع العقل الغربي المسلّح وسعيه لتجديد استيلائه على المنطقة.
تفترض عودة الأطروحة الفلسطينية إلى حاضريّتها إعادة الاعتبار إلى التناقض الجوهري مع الدولة الصهيونية، وهو ما يشكّل المدخل الواقعي لتصويب التاريخ. ومن الجائز أن نرى إلى حقيقة أساسية يتوقّف على إدراكها جدوى أيّ مشروع في هذا المنحى، وهي إعادة الاعتبار إلى حقّانية التناقض الجوهري بين وجود إسرائيل كسليل لإمبريالية ما بعد الحداثة، وأيّ مسار نهضوي تحريري لشعوب المنطقة.
ينبغي أن نعترف أنّ ثمّة طوراً آخر من السجال أخذ يحفر مجراه حول وجود إسرائيل. ولنا أن نلاحظ أنّه بقدر ما يتّسم هذا الطَّور بالحدّ الأعلى من العداء لهذا الوجود، فإنّه ينبسط في المقابل على فرضية الالتقاء والمُصالَحة معها. هذه الفرضية تنطرح اليوم على أكثر من نصاب: أكثرها حيويّة وخطورة استئناف العمل على “خطوط السلام” مع إسرائيل تحت وطأة التشظّي والفتن الدامية التي تجتاح بلاد العرب من مشرقها إلى مغربها.
أمّا المسار الذي يُعمل عليه بدأب إقليمي ودولي فيجري بالتدريج والتواتر، بدءاً من إنهاء العداء مع الدولة اليهودية، عبوراً إلى إنهاء الخصومة معها، ثمّ تصاعداً الكلام الصريح عن “حسن الجوار”، بحيث تكتسب الحالة الإسرائيلية مشروعيّتها من ضمن ما يسمّى بالجغرافيا الاستراتيجية الكبرى للشرق الأوسط الجديد.
فلسطين اليوم باقية على قمّة جبل الهواجس التي يكتظّ بها الإقليم والعالَم. لكن ما هو أبعد وأعمق أثراً، أنّ زمن المنطقة محكوم الآن بمسارَين جوهريَّين:
مسار فلسطين ومسار إسرائيل. الأوّل صعودي وأصيل وراسخ، وإن بدت الصورة خلاف ذلك. والمسار الثاني نزولي انحداري، وإن ظهر لكثيرين ما يُخالِف هذا الاعتقاد تحت ضغط الملهاة الدموية التي تستغرق عالمنا العربي والإسلامي منذ سبع سنوات ونيّف. صحيح أنّ إسرائيل حقَّقت كسباً استثنائياً في تأكيد شرعيّتها السياسية في المنطقة عن طريق الاعتراف بها من جانب العرب، لكنّ الصحيح أيضاً هو أنّ هذا الكسب الاستثنائي لشرعيّة الوجود السياسي انبعث في النفس الإسرائيلية هلعاً بيِّناً على مستقبل دولة تمكث في محيط مجتمعاته مُعادية لوجودها ومُنكرة لشرعيّتها.
أكثر ما يخشاه الإسرائيليّون وهُم يرقبون مسار التحوّلات، أن يُبدِع الفلسطينيّون مقاومة خلّاقة وصبورة تعطِّل الآلة العسكرية الضخمة لإسرائيل، وتدفع بدولة الاحتلال إلى دائرة العجز عن صناعة الوقائع والتحكّم بتداعيات الأحداث.
الخشية الإسرائيلية من مآل متوقَّع كهذا، لا تتأتّى من النَّظر إلى ثورة الأسرى ومن قبلها، ومعها، ثورة الحجارة، باعتبارها نسخة مكرّرة عن سابقاتها، بل في اندراجها من ضمن سلسلة متّصلة من الثورات والانتفاضات أسقطت أنظمة وحكومات يعتبرها الإسرائيليّون شريكاً “استراتيجيّاً” في أمنهم القومي والإقليمي. ما يُضاعِف هذه المخاوف هو الحضور الوازِن لميراث الخسارات التي مرّت بها إسرائيل في خلال العقدَين المُنصرمَين.
على مدى عقدَين انصَرَمَا، دأبَ الفكر الاستراتيجي في إسرائيل على تظهير رؤى نقدية ذات طابع تشاؤمي في سياق المواجَهات الجارية على جبهتَي غزّة وجنوب لبنان.
يقول الجنرال الإسرائيلي المتقاعد فان كريفيلد في معرض توصيفه لمنطق المُواجهات مع أعداء إسرائيل “إنّ الضعفاء هُم غالباً ما يكونون الأكثر عقلانيّة”… وبيان ذلك، أنّ الضّعفاء، وهُم يُواجهون القوّة العاتية، يقيسون موازين القوى بمعايير أكثر دقّة ممّا يقيس بها المنتصرون… ويردف كريفيلد “عندما كنّا ضعفاء في الماضي- كنّا عقلاء وجسورين فحقَّقنا الانتصار. لكنّ تحوّلاتٍ جذريّة طرأت على الصراع لتصبح المُعادَلة مقلوبة تماماً”.
لدينا أيضاً مشهد آخر من الكلام الساري في فضاء التشاؤم. فلقد مضى الكاتب السياسي الإسرائيلي أهارون لبرون قبل سنوات ليطرح بكثير من المرارة التساؤل الحادّ عمّا إذا كانت إسرائيل هي حقّاً قويّة بالصّورة التي تجعلها صاحبة النّهي والأمر في محيطها. وهو إذ يجيب بأنَّ إسرائيل هي حقاً قويّة من الناحية العسكرية، فلا يسعه إلّا أن يرثي أحوال هذه القوّة ما دامت في رأيه غير قابلة للاستعمال.
لقد بات الإسرائيليّون على يقين ممّا يتناهى إليهم من قلق وجودي. فالإثبات البسيط لعدم قدرة إسرائيل على صناعة الزمن السياسي في المنطقة، هو الحقيقة التي لم تعُد تخفى على أحد: فشل منطق القوّة في إنهاء الحيويّة الفلسطينية المتجدّدة. فلو كانت إسرائيل لا تزال تملك حقيقة القوّة، لاستطاعت كسب معركة استنزاف مروِّعة فرضت عليها فرضاً منذ الثمانينيّات من القرن الفائت.
على أنّ التحوّل الجيو- استراتيجي منذ احتلال العراق، إلى إخفاقها المدّوي في لبنان وغزّة، سوف يشكّل مانعاً جدّياً من التفكير في شنّ حربٍ تُعيد التوازن والتماسك لمجتمعها السياسي والعسكري والمدني.
أحد أبرز الأسباب المستدعية للخوف لدى الإسرائيليّين هو التّصدُّع الذي قد يصيب كتلتهم التاريخية.. في الماضي مثلاً، كان التشكيك في عمل القيادتَين السياسية والعسكرية وأدائهما يُعتبر عاملاً مهمّاً في إعادة ترميم التصدّعات ومناطق الخلل. أمّا الآن، فقد تعرّضت “الغريزة القومية الجماعية” إلى ضرب من الاهتزاز العميق بالتوازي مع نشوء مناخات عارمة توحي بنهاية تاريخٍ كامل من اقتدار الظاهرة الإسرائيلية.
واقع الحال أنَّ إسرائيل تعيش الآن على آثار “عقيدة احتلال” بلغت حدّ الإشباع. فمفهوم التوسّع، خارج ما يُسمَّى إسرائيل الصغرى، لم يعُد في حسابات العقل الإسرائيلي مادّة قابلة للتنظير، مثلما لم يعُد أطروحة سياسية قابلة للتطبيق.
البيِّن الآن، وبعد نحو سبعين عاماً على قيام دولة الكيان، أنّ مفهوم التوسّع صار من الماضي. تلك حقيقة يستشعرها الشطر الأعظم من صنّاع الاستراتيجيّات العليا في إسرائيل، حيث ينظرون إلى عقيدة التوسّع خارج حدود “إسرائيل التاريخيّة” باعتبارها “الفردوس الضائع” الذي لن يعود البتّة إلى نشأته الأولى.
نشرة أفق (تصدر عن مؤسسة الفكر العربي)