حامل فانوسه في ليل الذئاب
بصرف النظر عن فرادة تجربة سركون بولص (1944- 22/10/2007) الشعرية والحياتية، إلا أننا نحب الشعراء الموتى، أولئك الذين غادروا باكراً، وتركوا لنا قصائدهم مثل تعاويذ تحمي أرواحنا من العطب، حين نكون «على حافة المتاهة». نفتّش عن «أسمال» جان دمو بوصفها كنزاً شعرياً، الشاعر الصعلوك الذي مات في مصحّة، في مدينة سيدني الاسترالية، ونستعيد قصائد الشاعر السوري رياض الصالح الحسين الذي مات باكراً، بقصور كلوي، كما لو أنه اكتشاف متأخر لحلم مجهض. وقبله فجعنا بالموت التراجيدي للسيّاب، وكذلك الشاعرة دعد حدّاد التي ماتت بعد رحلة تشرّد، في مستودع مطبعة، والرحيل المباغت للشاعر بسّام حجّار. كأن الموت وحده هو الذي يمنحنا شرعية الاحتفاء والافتنان بنصوص الراحلين. كل هؤلاء أو معظمهم ظلّت تجاربهم في إطار التأريخ النقدي، من دون أن تخترق أسوار الحشود، وربما تكمن أهميتها هنا، في تلك المنطقة الاستثنائية للشعر الصافي، لا الانزلاق إلى ما هو خارجها.
بخصوص شعرية سركون بولص، فإنّها منذ بداياته ظلّت تعمل في حيّزها الخاص، تحفر بمعولٍ حاد تربة المعادن النفيسة غير المكتشفة، حتى داخل خيمة «جماعة كركوك» التي يُنسب إليها نقدياً، فهو مثال لليتم اللغوي من جهة، ورحابة امتصاص موروثات شعرية مرتحلة من فضاء جمالي إلى آخر، بنوع من «العراك مع اللغة»، من جهةٍ ثانية. فهذا العراقي/ الآشوري/ الكلداني/ السرياني، أسير مذبحة لغوية قادته إلى قطيعة جذرية مع ما هو مكرّر وإيقاعي، في بناء معمار قصيدته التي غرفت من آبار كثيرة، قبل أن تسحب حبل دلوها بمائها الخاص. نكهة لاذعة، مزيج من السرد البصري المتواتر، والعلاقات الصوتية في رسم إيقاع العزلة والإقصاء، إلى تظهير المعجم من شوائبه وغنائيته البرّانية، نحو نصّ هجين، بطبقات متعددة ومسبوكة بإحكام، هي، في نهاية المطاف، حصيلة المنفى التاريخي المتواصل، من الحبانية، إلى كركوك، إلى بغداد، إلى بيروت، وصولاً إلى سان فرانسيسكو، إلى أن انطفأ فجأة في برلين «لا مكان يحلم بوصولي، والحياةُ طريدتي الخائفة». رحلة شاقة لشاعر، أدار ظهره باكراً لجغرافيا ملغومة ونابذة، منذ أن عبر صحراء العراق نحو بيروت الستينيات، مشياً على الأقدام، بحذاء ممزّق، وجيوب فارغة، وقلم، مقتفياً أثر قصائده التي سبقته إلى هناك باحتفاء صريح.
نظنّ أن قصيدته حفرت طريقها، عند هذا التوقيت تماماً، بهذه المشهدية المبهرة، فهذا المسلك الطائش بحد ذاته ينطوي على حالة شعرية تعمل في الظل. احتضان مجلة «شعر»، ويوسف الخال لشعره، لم يضعه في قائمة «جماعة شعر» في أدبيات الحداثة، إنما ظل مفرداً ونافراً وأعزل، مثل قصائده المتناثرة، ومثل حياته المتصدّعة. ذلك أن ديوانه الأول «الوصول إلى مدينة أين» تأخر كثيراً، حتى خرج إلى النور، في منتصف ثمانينيات القرن المنصرم، بقوة دفع الأصدقاء، فكان اكتشافاً مذهلاً للشعراء قبل أن يكون ذخيرة طازجة في مرمى النقّاد، مزاحماً بإيقاعاته المباغتة والمفارقة والصلبة، قصيدة النثر المستقرّة التي اكتسحت المشهد الشعري العربي بغزارة. مجازفة بالطاقة القصوى، في خلخلة ما هو سائد حينذاك، لجهة التماثل بين التجارب، نحو لغة مغايرة تعتني بما هو متوتر وصارم ومهمل، من دون ادعاء أو زخرفة، أو بيان، بحراثة أرض بلاغية لطالما كانت عزلاء، وخارج متن الأغراض الشعرية، بما يُشبه انقلاباً على السياق، وقطيعة مع سكونية الجموع «أنا قيلولة ذاتي، أنا ظهيرة أيامي» يقول. ههنا، أنا حائرة، قلقة، تائهة، مستلبة، تعمل على تقويض المركزية الشعرية لإنشاء تعبير الفرد في منفاه الأبدي، بتعاضد الأرضي والميثولوجي في سبيكة واحدة. سننتبه إلى تكرار مفردة «الباب» في نصوصه، وتالياً، إلحاحه على الهجرة من بابٍ إلى آخر «لا القفل في الباب، لا الباب في البيت، ولا البيت هناك»، في رحلة قدريّة ألقت به في «مركب نوح»، من دون أن يغادر أرضه الأولى وطقوسها ورائحتها.
عبارة مثل «هناك باخرة ضائعة ترعى بين أحشائي»، تختزل تمزّقاته الحياتية، ومسالكه الشعرية المتشعبة التي تختزن أصداء المتنبي وأبي تمام والسيّاب وألن غيسنبرغ في آنٍ واحد، كمحصلة لثراء تجربته وطليعيته، وقدرته على رسم خرائط جديدة لمكابداته، مسرفاً في صناعة الدهشة، يصفعنا بعناصر شعرية بسيطة وعميقة وذاتية «إن القصيدة طقس روحي، وجودي، يجمع في ذاته، كلما مررت به في حياتي، نقطة رحيل. ففي كل قصيد تشوّق الى محطة جديدة، واحدة تقود الى الأخرى، سلسلة من القصائد هي في النهاية أنت» (سافرت ملاحقاً خيالاتي). هكذا نقع على سيرته المتشظية، كتاباً وراء الآخر، بزخم أكبر، مشيّعاً «جنازة اللغة» خارج نصوصه، حاملاً فانوسه في ليل الذئاب، وفقاً لعنوان أحد كتبه. فانوس تضيئه ارتطامات عالمه الجوّاني، في المقام الأول، هذا العالم الذي لا يكتمل إلا ليلاً، كملاذٍ لفحص ما يعتمل في روحه خارج فكرة القطيع، فهو «نسرُ يعتلي الهضبة، وفريستي ترتاح تحت مخالبي». الشعر إذاً، فريسته التي يصطادها بمخالب اللغة الشرسة والحادة مثل مبضع، بنظرة ثاقبة من الأعلى، نظرة شاقولية تزعزع طمأنينة ما هو أفقي وعادي وسكوني، وتحيله إلى حلم، أو إلى وهم، أو إلى لذة افتراس.
هذا الحضور الناصع والمكتنز والمرهف، لا يعني أن دمغة سركون بولص تجاوزت حدود الذائقة الاستثنائية، إنما ظلّت تعمل في منطقتها ومنطقها الخاصين، عدا نزهات خاطفة في الفضاء الافتراضي النوعي. كنت ذكرت اسمه عرضاً، لشاعرة من جيل الألفية الثالثة، فأجابت متسائلة: سركون بولص، هل هو أحد القديسين القدامى؟ قلت: أجل إنه قديس.
صحيفة الأخبار اللبنانية