حجر الزاوية في صرح الفساد

قيل إن سور الصين العظيم والمنيع، قد وقع اقتحامه بفعل رشوة موظف كان يعمل حارسا عند بوابته المحكمة.

الرشوة تشخيص مصغر وملطّف لفعل الخيانة، ذلك أنها نوع من التآمر الخفي بين الراشي والمرتشي على سلطة القانون التي هي هيكل الدولة ومصدر قوتها واستمرارها.. ألم يقل ابن خلدون: العدل أساس العمران.

لا يصلح الأفراد والمجتمعات ولا تقوم الحضارات إلا بخلوها من هذا المرض العضال الذي يسمونه الرشوة. تفتك هذه الآفة بالمجتمعات وتسير كالنار في الهشيم وكالسوسة في العظم، يصعب إيقافها والقضاء عليها بعد أن تمتد بعيدا في الجسم المجتمعي ولا يمكن ساعتها القضاء عليها إلا بالبتر، وهذا ” البتر” هو سلطة القانون الرادعة.

وقبل تطبيق القانون بمفهومه التنفيذي، ينبغي الاهتمام بالعقلية المجتمعية السائدة وإرساء ثقافة العمل والجدية والمواطنة، ذلك أن فعل الرشوة عادة ما يتم في كنف السرية دون رقابة إدارية، وعليه فإن رقابة الضمير هي الأساس في بناء الفرد وحماية المجتمع والدولة.

تتقاطع وتقترن الرشوة مع أمراض اجتماعية كثيرة فهي تشبه السرقة من حيث وقوع الفعل في الظلام والسرية والتعدي على حق الغير، كما تلتصق بالنفاق والكذب في كونها تظهر عكس ما تبطن، فلا الراشي يحب المرتشي ولا المرتشي يحب الراشي وكل ما بين الطرفين هو التقاء مصلحة فردية خارج الدائرة القانونية والأخلاقية.

لسنا بطبيعة الحال في معرض إدانة الرشوة بصيغ الوعظ والإرشاد من تلك التي عادة ما نملّها على المنابر، لكن من الضروري التنبيه إلى أن مجرد غض النظر عن هذه الآفة والقول بأنها سلوك يومي يمارس كل يوم في الدوائر الحكومية وغير الحكومية، هو تسويغ للرشوة وإعطاؤها صفة العادة الاجتماعية وهو أمر في غاية الخطورة.

من الضروري إدانة من لا يدين الرشوة ويعتبرها مجرد سلوك منحرف يمارس بكثرة حتى أصبح شبيها ب” الطبيعة الثانية” على قول أرسطو، ومن الواجب القضاء على الرشوة بالامتناع عن ممارستها فعلا أو تقبلا أي راشين أو مرتشين، وذلك أضعف الإيمان.

خاطئ من يتشدق بعبارة ” للقضاء على الرشوة يجب القضاء على أسبابها” والمقصود بالأسباب هنا هو حالة العوز المادي التي تدفع بالموظف للارتشاء.

إن من يبرر تفشي الرشوة في المجتمع ويربطها بالوضعيات الاجتماعية الصعبة لهو كمن يبرر فعل الكذب بالسعي للنجاة من العدالة، إذ لا شيء يبرر الرذيلة ولا يمكن أن نغفر لمن يساهم في تشويه مجتمع بأكمله. وآفة الرشوة لا تقتصر على مجرد مصلحة بين طرفين مارسها كل منهما بمنتهى الحرية والمسؤولية. إنها تتعدى ذلك إلى تشويه الأجيال القادمة وتعويدهم بأن هذا السلوك طبيعي.

الرشوة مثل المخدرات وربما أكثر، ذلك أنها ترسي سلوكا يساهم في اعوجاج الفرد والمجتمع، وتخلق حالة تبدأ بازدراء القانون وتنتهي عند تكريس التفرقة ومحاكمة الناس على أساس ما يملك من نقود أو قدرة على شراء الذمم.

الرشوة في أبشع وأخطر أشكالها هي تلك التي يمارسها رجال الأمن والقانون، والذين هم في مواقع يفترض أن تتقصى المرتشين وتقدم النموذج والمثال. وفي هذا الصدد تناقلت أخيرا وسائل إعلام في دولة عربية شريط فيديو يصور رجل أمن يطلب نقودا من سائق سيارة.

وفيما يخص هذه الحالة، أوضحت المحامية التونسية هدى بن مصطفى، أنه إذا ثبتت جريمة الرشوة على عون الأمن وهو موظف عمومي من صميم مهامه أنه مكلف بالبحث عن الجرائم ومعاينتها بصفته ضابطة عدلية وليس ارتكاب الجرائم فإن الفصل 83 يفرض عقوبة سجنية تحدد بـ” 10 سنوات سجنا إذا كان رجل الأمن وسيطا في عملية الرشوة” ويمكن أن تحرمه المحكمة من مباشرة وظائفه العمومية وذلك كحد أدنى للعقوبة.

وبينت المحامية أنه في حالة ثبوت أن عنصر الأمن هو الذي طلب الرشوة وأصر على قبولها ولم يكن في وضعية المتلقي فإنه بناء على الفصل 84 من المجلة الجزائية تتضاعف العقوبة لتصبح 20 سنة سجنا مع حرمانه من الوظائف العمومية باعتباره مؤتمنا على أسرار الدولة وتسمى هذه العقوبة حالة تجديد.

وأضافت المحامية أن العقوبة السجنية تطبق على المرتشي وذلك بقطع النظر عن قيمة الرشوة التي تحصل عليها أثناء أداء مهامه.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى