حجر الصبر” اختزال السرد وطغيان الصورة
في حجر الصبر تعاني المرأة في مجتمعات العالم الثالث ومنذ أزمنة بعيدة من هيمنة ذكورية شبه مطلقة لا تسمح لها بامتلاك أدنى قدر من الحرية حتى داخل منزلها. حيث تكون السلطة البطريركية حاضرة وبقوة متجسدة عبر الأب أو الأخ الذي يتولى الهيمنة على نساء بيته وصولاً لأمه.
حتى وأن كان مجرد ذَكر لا ذِكرَ له في الحياة سوى التباهي برجولة واهية .ليحل بعد ذلك الزوج والذي غالباً ما يدخل منظومة الزواج وهو لا يعي شيئاً فيها ولا يهمه ذلك سوى كونه الإله الأرضي الآمر الناهي.
وأن حدث وصارحته زوجته بما يعتمل داخل نفسها من تساؤلات عن المرأة وأحقيتها بالحياة وعن مفهوم الشراكة في منظومة الزواج ورغباتها الخاصة به كذكر. فستكون نهايتها حتماً إما الطلاق ووصمها بالعاهرة أو القتل كبطلة حجر الصبر.
عتيق رحيمي كاتب أفغاني ومخرج سينمائي ولد في كابل عام 1962. غادر بلاده متجهاً إلى فرنسا بعد الإجتياح السوفيتي لأفغانستان.
ليكمل دراسته في باريس حاصلاً على شهادة الدكتوراه في الاتصالات البصرية. يكتب رحيمي باللغتين الفرنسية والفارسية
وحاز عام 2008 على جائزة الغونكور الجائزة الفرنسية الأدبية الأبرز عن روايته “حجر الصبر”.
وفي عام 2010 حاز على جائزة الأدب الفارسي في إيران عن روايته “الأرض والرماد”.
بلاد أنهكها الفقر والتشدد الديني والاحتلالات المتتالية والحروب الأهلية فهل سيأتي يومٌ وتنفض عنها الستارة البالية لتحلق الطيور طليقة؟
“حجر الصبر” رواية عن الوجع الذي يهزك، يقلب كيانك حتى يغيرك تماماً فلا تعود أنت، أنت. بعد ما تنتهي من قراءتها
بدءًا من العنوان عتبة النص الأولى الذي يدعوك للتوقف عنده كثيراً. فوفقاً للميثولوجيا الفارسية والأسطورة الأفغانية هنالك حجر أسود عتيق يسمى “حجر الصبر” ينصت لك وأنت تشكو له همومك وآلامك المستديمة ليخلصك منها ثم ينفجر متفتتاً إلى أجزاء صغيرة.
ثم الإهداء الذي يشي للقارئ بما سيواجهه في هذه الرواية من ألم:
إلى “ناديا إنجمان”، الشاعرة الأفغانية التي قتلها زوجها الأستاذ الجامعي عام 2005 بعد إصدارها لديوانها الشعري الأول. دخل على أثرها السجن محاولاً الانتحار فيما بعد ولكنه فشل في ذلك.
ليدخل في غيبوبة تامة زاره آنذاك عتيق رحيمي في المشفى رغبة منه في معرفة المزيد عن الشاعرة التي سيهديها روايته بعد سنوات معدودة من موتها.
صدرت “حجر الصبر” الرواية الثالثة لعتيق رحيمي بترجمتين للغة العربية
عن دار الساقي بترجمة صالح الأشمر.
وعن دار المأمون بترجمة كامل عويد العامري. كما صدرت له كتب أخرى “ملعون دوستويفسكي” و”الف منزل للحلم والرعب” و”أرض ورماد”.
حوّلت الرواية إلى فيلم سينمائي عام 2013 .إخراج وسيناريو عتيق رحيمي كما شارك الكاتب والمخرج والممثل الفرنسي الشهير جان كلود كاريير في كتابة السيناريو.
تبدأ الرواية بإيقاع بطيء للغاية يسير وفق آلية تنفس حجر صبر
البطلة “زوجها” ووقع حبات المسبحة ولكنها لا تشعر القارئ بالملل، على العكس من ذلك . فالعبارات الموجزة والمشاهد السردية المصورة بإتقان تبعث في دواخلنا إحساساً كأننا أمام شاشة سينمائية عملاقة تبث حكاية امرأة “مدينة” منذ أن استقبلتها الحياة وهي لم تمنحها شيئاً سوى التعاسة والألم.
الإختزال المكاني: جغرافية المكان محدودة جداً حيث تدور معظم أحداث الرواية في غرفة واحدة في منزل متداعٍ عدا بعض المشاهد الأخرى في شوارع افغانستان المنكوبة التي مرّت بها البطلة سريعاً.
وفيما يخص شخصيات الرواية فهي تكاد تكون معدودة ولكنها مؤثرة للغاية، البطلة وحجر صبرها، زوجها المجاهد ضد أعداء وهميين لا وجود لهم سوى بعقيدته، حيث بعد انسحاب جيش الأحتلال السوفيتي من أفغانستان ونزاع المسلحين حول السلطة أصابته رصاصة في عنقه أقعدته محولة أياه إلى مجرد جثة حية، لا مهمة له سوى الإنصات لزوجته التي كان قد حرمها من أبسط حقوقها معه وهو حق الكلام.
عمة البطلة أو كما يطلق عليها من قبل أهل زوجها بالمومس أو العاهرة لأنها رفضت تحرش والد زوجها بها. المسلّح أو كما يسمى بالمجاهد الذي بصق على البطلة بدواعي الشرف وحرمة الدين بعد أن سألها عن طبيعة عملها .فأجابته “أبيع جسدي كما تبيعون دماءكم” كي تتجنب رغبته بها بناءً على نصيحة عمتها لها. المجاهد المؤمن الذي يستحرم أن يلامس جسده عاهرة ولكنه يمارس الجنس يومياً مع فتى مشرّد اختطفه من الطرقات. يضع البندقية على كتفه نهاراً، أما ليلاً فيضع الحديد أسفل ساقيّه ويجبره على الرقص حسب رغباته.
الفتى الألثغ الذي يجد نفسه ووجوده مع بطلة الرواية لأنها مستباحة ومهمّشة مثله تماماً. ولكنه سيصّب فيها ما خلّفه سيّده فيه من عقد. حيث سيجبرها على ممارسة الجنس معه لأول مرة تحت تهديد السلاح. على خلاف ما فعلته حيث أحتضنته كما تحتضن الأم صغيرها. روّضته وتفهّمت رغباته واندفاعاته وكانت في ذلك رمزية للمرأة بأعتبارها صورة حية للحياة والحب والسلام.
ترك عتيقي بطلة روايته بدون اسم ليفتح أمام القارئ أفق التأويل على مصراعين. فمن جهة ترمز إلى بلده الأم أفغانستان المسلوب الإرادة. المغتصب والمختطف من قبل جماعات مسلحة وأنظمة فاسدة.
ومن جهة أخرى ترمز إلى الحضور المادي للمرأة الأفغانية المسلوبة الإرادة. وفي تأويل آخر أرادها الكاتب نموذجاً للمرأة في مجتمعاتنا بصورة عامة .وليس في أفغانستان خاصة. مؤكداً ذلك في أول صفحة من الكتاب “في مكان ما من أفغانستان أو في مكان آخر”
معتمداً بذلك على تقنية الميتا سرد ليمنح بطلة روايته مساحة كاملة للتحدث عن نفسها. رغباتها وأمنياتها في أن تكون سيدة قرارها. عن رؤيتها للوطن والمواطنة وعن مفهومها للإيمان وكيفية تجسيده بقبلة لا بطلقة من فوهة بندقية. كما رأى عتيقي أن يجعل من بطله الآخر زوجها كحجر الصبر كي يمنح المرأة حرية اعتلاء مسرح الحياة ولو سردياً وجاء ذلك عبر المونولوج.
بلغة رشيقة وعبارات مختزلة نقل لنا عتيق رحيمي مشهدا صوريا متكاملا عن أفغانستان، البلاد التي أنهكها الفقر والتشدد الديني والاحتلالات المتتالية والحروب الأهلية فهل سيأتي يومٌ وتنفض عنها الستارة البالية لتحلق الطيور طليقة؟