حرافيش نجيب محفوظ.. وفتوات النظام (عباس الطرابيلي)
عباس الطرابيلي
عرفت مصر الفتوات، في فترات ضعف الدولة، أي عجزها عن حماية الناس وأموالهم وأعراضهم.. وبالذات وهي تحت الحكم العثماني الذي امتد أربعة قرون، خصوصاً في عصر الولاة الضعاف.. وتصاعد شوكة بكوات المماليك الذين كانوا هم حكام مصر الحقيقيين.. اذ في هذا العصر عندما كان الوالي يعجز عن دفع رواتب الجند، أو يزداد الصراع بين البكوات لجأ الناس إلي الفتوات ليحموهم من هجمات الجنود، سواء كانوا جنود الوالي.. أو جنود المماليك.. فما اكثر هجمات هؤلاء وهؤلاء الذين كانوا يكبسون بيوت الناس ومحلاتهم للحصول علي الاموال كبديل عن الاجور التي عجز الوالي عن دفعها.. أو البكوات الذين سمحوا لهم بذلك بعد ان عجزوا هم عن دفع هذه الرواتب..
هنا نشأت فئة الفتوات يلجأ إليهم الناس لحمايتهم، نظير إتاوة مالية أو عينية.. وفي البداية كانت هذه الاتاوة يدفعها الناس طواعية مقابل توفير الحماية لهم.. ثم أصبح الفتوات يجبرون الناس علي دفعها.. نظير تصديهم للجنود وهجماتهم أو اللصوص ومداهماتهم.. وهي نفس النظرية التي جعلت الناس يبنون الابواب المصفحة علي مداخل الحارات.. وهي التي استخدمها سكان القاهرة في ثورتهم الاولي علي بونابرت أو في ثورتهم الثانية علي خليفة الجنرال كليبر فاضطر الاثنان إلي ازالة هذه الابواب التي كان يتحصن خلفها الثوار..
ونظرية الفتوات التي عرفتها مصر في هذه الفترة وما بعدها عرفتها أدبيات أوروبا وامريكا اللاتينية.. فوجدنا الفارس النبيل روبين هود.. أو الكابتن زورو الذي يهاجم الواحد منهم ورجاله أمراء الاقطاع ويستولون منهم علي الاموال.. ليعيدوها الي الناس البسطاء الذين سرقهم هؤلاء الأمراء.. وقد تحولت حكايات روبين هود وزورو إلي أفلام ومسلسلات بهرت الناس ومازالت، لانها كانت ضد حكام الاقاليم الطغاة الذين يسلبون الناس أموالهم تحت دعوي الضرائب..
وقد عبر أديبنا الكبير نجيب محفوظ عن هذه الفئة وأطلق عليهم كلمة الحرافيش .. وصورها في كثير من أعماله الادبية التي تحولت هي الاخري إلي أفلام ومسلسلات.. سواء عندما كانت شريفة أو كانوا من العتاة الجبابرة الذين تحولوا إلي غضبات تسلب هي أيضاً أموال الناس..
ورغم أن الفتوات فكرة نبيلة المنشأ والهدف.. الا انها شأن كل فكرة نبيلة تحولت إلي وسيلة بطش ضج منها الناس.. وكثيراً ما وجدنا بعضها، وقد سجلها أيضاً نجيب محفوظ في رواياته الكبيرة وربما اشهرهم عاشور الناجي..
ورغم ان عصر محمد علي واولاده واحفاده نجح في فرض الامن والنظام وخلصوا مصر من هذه الفئة تماماً، كما تخلص هو من المماليك في مذبحة القلعة الشهيرة أول مارس 1811 الا ان بعضهم استمروا في ازعاج الناس إلي أن رأى نجيب محفوظ أواخر عصرهم وسجل وقائعهم في أدبياته ورواياته..
وعندما قام شباب مصر بالثورة في يناير 2011 وبعد ان سقطت الدولة واختفي رجال الشرطة والأمن وجدنا جماعات من الثوار تخرج بالنبابيت والعصي والسيوف لتحمي الشوارع والناس.. من بطش من يفكر في الاعتداء علي الناس والأموال والأعراض.. وهم بذلك أحيوا نظام الفتوات – عندما كان جميلاً – إلي أن أخذت الدولة تستعيد انفاسها.. والشرطة تستعيد دورها إلا قليلاً.. علي أمل عودة نظام عسكري الدرك القديم ولو بعد تطويره بالحملات الامنية الراكبة على الموتوسيكلات والخيول والسيارات..
ولكن مصر تعيش الآن عصراً جديداً من الفتوات ولو بأسلوب عصري، فإذا كان فتوات زمان يستخدمون النبوت والشومة.. في الحق أو الباطل، ها هم فتوات «الاخوان» يستخدمون اسلحتهم الجديدة وهي طول اللسان، أي الارهاب الفكري الذي حل محل ارهاب الشومة أو عصا الفتوة القديم، وبعد ان كان فتوات الاخوان يختفون – زمان – وراء الجدران أو يحركون غيرهم من وراء حجاب أو جدار نجدهم الآن يختفون وراء ارهاب جديد.. هو «إرهاب اللحية» وارهاب تقطيبة الجبين.. اذ يستحيل ان تجد واحداً منهم يتبسم أو يضحك ولو قليلاً وكأن البسمة ليست من الاسلام وعودوا إلى عصر الرسول الكريم الذي «عبس» في وجه عربي فقير ذهب يعرض إسلامه «فعبس» الرسول في وجهه لأنه صلي الله عليه وسلم كان على موعد مع أحد أثرياء المشركين عرض أنه يسلم هو الآخر.. فنزلت عليه رحمه الله وصلاته كلمات الرحمن «عبس وتولي.. أن جاءه الأعمي.. وما يدريك لعله يزكي..» (صدق الله العظيم).
وإرهاب اللحية والتكشيرة نراهما الآن في كل مكان وهم يسيطرون الآن على وسائل الاعلام.. هذا الاعلام الذي اصبح طوع أيمانهم.. أو ذاك الذي يتحول من الشيء إلي نقيضه..
وعن تحول الإعلام والاعلاميين.. وعن انتشار ظاهرة «عبده مشتاق» يكون حديثنا غداً إن شاء الله..
صحيفة الوفد المصرية