حرب سوريا.. عقدة واشنطن عودةُ موسكو

فَرَضَ التدخل العسكري الروسي في سوريا واقعاً جديداً ومتغيرات كبرى، جعلت محاولات الولايات المتحدة الحفاظ على نفوذها في المنطقة أكثر صعوبة وتعقيداً. لكن قلق الأميركي ناجم عن شكوكه في وجود رغبة روسية أكيدة في حل سياسي للأزمة السورية، وقناعته بأن موسكو تسعى للتأسيس لعقيدة سياسية وعسكرية توسعية، خصوصاً مع سعيها لإثبات قدرتها على إدارة أمن المنطقة وإعادة ترتيبها، إلى جانب واشنطن. وجاءت مناورات «حلف الأطلسي» الأخيرة في البحر المتوسط، تعبيراً عن عمق القلق من جهود روسيا لبناء قواعد عسكرية، من القطب الشمالي إلى بحر البلطيق، مروراً بالقرم وانتهاءً بالمتوسط، فضلا عن إظهار قواتها، قدراً «مقلقاً» من الثقة والحزم.

الولايات المتحدة تعتبر سوريا عقدة المنطقة، ومرتكزاً أساسياً لتنفيذ مخططاتها. ومع تحولها من أزمة محدودة إلى تهديد عالمي، وساحة لاشتباك محتمل بين القوتين، ومدخلاً لفراغ استراتيجي تحكمه الفوضى، أصبحت بالنسبة للبيت الأبيض مسألة أمن قومي مباشر.

لكن المفارقة هي في أن مصلحة الحلف الأميركي تقتضي إبقاء الوضع على حاله، بل وتحويله إلى حرب استنزاف توقف التقدم الروسي، وتمنع محور المقاومة من امتلاك زمام المبادرة، وتحدّ من دور إيران. التدخل الروسي الذي ظهر مكافئاً للدور الغربي في سوريا، ساعد محور المقاومة على تحقيق تقدّم ميداني، قد يؤدي استمراره إلى خلخلة مرتكزات أساسية للاستراتيجية الأميركية، أبرزها سقوط الممنوعات الثلاثة: قيام تكتل إقليمي سياسي واقتصادي وأمني خارج السيطرة الأميركية، وتهديد سلاسة تدفق النفط إلى العالم، وتهديد أمن إسرائيل. في هذا الإطار يمكن فهم إصرار واشنطن على النظر إلى المنطقة من زاوية الإرهاب فقط، واعتباره سلاحاً فعالاً في مواجهة خصومها. هي تعمل على تعديل ميزان القوى بالعودة إلى الرهان على الجماعات التكفيرية وعلى العشائر، وتدريبها وتزويدها بأسلحة وذخائر نوعية. وفي الإطار نفسه، يأتي إرسال جنود أميركيين إلى سوريا ودعوة وزير الدفاع الأميركي الجماعات المسلحة إلى مواصلة القتال ضد الجيش السوري وحلفائه. ربما قررت الولايات المتحدة الانتقال من التدخل الحذر في الأزمة، إلى الاختبارات الصعبة وتغيير قواعد اللعبة.

يُقرّ الجميع بعدم إمكانية الحل العسكري وعدم قدرة روسيا على كسب الحرب، وأن أقصى الممكن هو حماية النظام ومنع سقوط سوريا بالكامل في قبضة الحلف الأميركي. لكن الأميركيين يتوجّسون من إصرار روسيا على لفت انتباه العراقيين إلى قدرتها على مساعدتهم ضد «داعش». موسكو ما زالت تعتبر العراق جزءاً من مجالها الحيوي، ومن مساحة أمنها ومصالحها. وهو ما تدركه واشنطن، الساعية إلى حصار روسيا. وتدرك أن التحديات في سوريا والعراق متداخلة ومترابطة، ولا يمكنها الاستقرار في بغداد، إلا بإخضاع دمشق.

التطورات في سوريا مقدمة لتسويات كبرى، أو لصراعات أوسع وأقسى. لهذا مازال التردد والارتباك سمة الموقف الأميركي، فالأميركيون يبقون على خياراتهم كافة إزاء التدخل الروسي. فتارة يتحدثون عن إمكانية التعاون الموضعي مع موسكو، وأخرى يحذرون من إمكانية الصدام. واشنطن تريد رحيل الرئيس الأسد وتفكيك الأجهزة الأمنية، لكنها تريد الحفاظ على النظام، وتخشى سقوطاً مفاجئاً لبنيانه يفتح الطريق أمام «داعش» وأخواته لملء الفراغ. وهي تعتبر الجيش ذراع الرئيس الأسد الأقوى، لكنها تعتبره دعامة النظام الأساسية والضمانة لردع التكفيريين، ولا تخطط لتفكيكه في حال كسبت الحرب خشية تكرار التجربة العراقية الكارثية. لذا فهي تسعى في هذه المرحلة إلى تغيير الوقائع الميدانية بدعم فصائل «معتدلة»، لتؤسس لرديف عسكري يمكِّنها من فرض قيادة جديدة للجيش في حال هزم النظام.

لأن خياراتها ضيقة ومحدودة، وسيناريوهات أيّ تدخل مباشر في سوريا لم تكتمل بعد، تحاول واشنطن تشكيل معارضة قادرة على إدارة الكارثة التي قد يخلفها تغيير جذري في سوريا، برغم الشكوك القوية في قدرة المجتمع الدولي على احتواء أي انهيار شامل في سوريا.

الاضطراب في موقف الأميركي، وخشية الروسي من دخول سباق تسلح جديد، تدفعهما إلى إبداء الاستعداد للتعاون في التوصل إلى حل سياسي. هما يتفقان على مرحلة انتقالية تريد واشنطن تقصيرها لستة أشهر، بينما تعمل موسكو على تمديدها أطول فترة ممكنة. تختلفان حول دور الرئيس الأسد خلال تلك الفترة، لكنهما يتركان الباب مفتوحاً على كل الاحتمالات، في ما خصّ بقاءه أو رحيله. ومع توسّع رقعة المعارك، وعدم وجود مؤشرات على أي توجه أميركي لإعادة النظر في الاستراتيجية القائمة، يضغط حلفه لدفع روسيا إلى التمييز بين «داعش» وبين «الفصائل المعتدلة»، ويراهن على ازدياد حدة ردود الفعل المعادية لها بين المسلمين السنة. في المقابل، تسعى روسيا للإمساك بزمام العملية السياسية لإدارة سوريا، بعيداً عن الإرادة الدولية، ووضع خطوط حمر أمام مشاريع واشنطن التي تعمل بدورها على تحويل «مؤتمر فيينا» إلى هيئة وصاية دولية، تدير سوريا وتقودها نحو تسوية تخدم مصالحها في تغيير معادلات المنطقة.

ليس متوقّعاً التوصل إلى صيغة لوقف الحرب في سوريا قريباً، ما يشجع الأميركيين على استخدام ورقتهم الأقوى، استنزاف روسيا عسكرياً واقتصادياً. هم يعتقدون أن تطور العمليات في سوريا سيدفع روسيا إلى توسيع تدخلها، والغرق في الحرب هناك. واشنطن تصعّد في سوريا لحماية نفوذها في العراق ومشروعها في المنطقة. ولا ردّ على تسعير الأميركيين المواجهة مع روسيا وحلفائها، إلا في اليمن والعراق ودعم أكراد تركيا. والعراق هو الأقرب والأكثر تأثيراً، إذ يصعب فصل ما يحدث فيه عما يحدث في سوريا. ولإرباك الحركة الأميركية بات ضرورياً تسخين بعض الجبهات، التي ربما تفجّر أزمات جديدة في وجه الأميركي، قد تمتد الى مصر وشمال إفريقيا.

صحيفة السفير اللبنانية

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى