حرب غزة كما يراها السوريون…
على غير العادة تباينت مواقف السوريين وردود أفعالهم من الحرب الدائرة في غزة. فالمألوف حصول ما يشبه الإجماع على رفض أي عدوان صهيوني ضد الشعب الفلسطيني ومناهضته، ليس فقط لحساسية حضور المسألة الوطنية في وجدان الشعب السوري، إنما أيضاً بسبب روابط تاريخية بين الشعبين بلورت حالة مزمنة من تعاطف السوريين مع معاناة الفلسطينيين ومظالمهم، تجلت تاريخياً بروح متحفزة وباستعداد استثنائي لتلبية أي استغاثة يطلقونها. لكن اليوم ثمة مياهاً كثيرة جرت، وهناك متغيرات سياسية ونفسية عميقة طاولت السوريين بعد ثلاثة أعوام ونيف من تفاقم الصراع الدمويي في البلاد.
بداية، وفرت حرب غزة فرصة ثمينة استثمرها الإعلام الرسمي لإحياء الشعارات الوطنية والترويج لفكرته عن وجود مؤامرة خارجية تهدف ضرب محور الممانعة، بدأت ضد سورية وتستمر في غزة، لتتواتر الاتهامات والإدانات بحق الثورات العربية، وأنها هي أساس الداء والبلاء اللذان عمّا المنطقة وأوصلاها إلى حالة من الضعف مكّنت نتانياهو من الاستفراد بأهل غزة والتنكيل بهم، وكأن العرب والفلسطينيين كانوا أفضل حالاً قبل ذلك، وكأن إسرائيل لم تشن حروباً شرسة في فترات سابقة ضد غزة وللأسباب ذاتها، كل ذلك من أجل تشويه الدوافع الحقيقية للثورات ورفض الاعتراف بالأسباب السياسية والاجتماعية للأزمات العربية، والأهم صرف الأنظار عن تصاعد العنف والتدمير في البلاد، وعن معاناة تشتد وتتعاظم لدى غالبية السوريين في الداخل أو في الشتات. في المقابل أربكت حرب غزة الجسم السوري المعارض، وزادت من تشتته ومن ضعف مواقفه وخياراته، فمن جهة شكلت طوق نجاة لبعض أطراف المعارضة التي لا يزال الهم الوطني يحتل الأولوية لديها، أو لنقل حافزاً يشجعها على إزالة ما تبقى من إحراجات لتبرير إعادة النظر باصطفافاتها وبمواقفها من أطراف الصراع، والحجة تنامي الأخطار الصهيونية، فكيف إن أضيف إليها ما يشكله تنظيم «داعش» من تهديد للكيان السوري! وإذ ينسحب هذا الأمر على بعض القوى التي تنتمي إلى معارضة الداخل، فهو يشمل أصواتاً قيادية في الخارج بدأت تطلق التصريحات لطي صفحة الماضي وتبني الحلول الوسط، من دون أن نغفل نظرياً عن احتمال تقدم موقف جديد لـ «الإخوان المسلمين» أسوة بقرار تجميد معارضتهم للنظام السوري إبان العدوان على غزة عام 2008.
ومن جهة أخرى ثمة معارضون تملأهم الريبة والشكوك من حرب غزة، إما لأنهم يخشون دورها الموضوعي في منح السلطة فرصة لإطلاق يدها في الفتك والتنكيل مطمئنة إلى انشغال العالم هناك، وإما لأنهم يتحسبون من أن تفتح هذه الحرب، إن طال زمنها واشتد أوارها، بوابة على متغيرات تعيد للنظام ولأطراف محور الممانعة بعضاً من دور إقليمي ينحسر، أو تفضي إلى خلط الأوراق وخلق تحول في التفاعلات السياسية الجارية في الدوائر الغربية والعربية تحبذ التعاطي مع النظام السوري لضمان استقرار المنطقة. وهناك بين هؤلاء المعارضين من دفع موقفه إلى آخر الشوط معتبراً حرب غزة في توقيتها وزخمها حرباً مفتعلة بتحريض إيراني، وكردٍّ من طهران على الجديد الحاصل في العراق وسورية بعد التقدم الكبير الذي أحرزه تنظيم «داعش» في مواجهة ركائزها ونفوذها.
كان للمشترك الديني دور كبير، هذه المرة، في قراءة تعاطف قطاع من السوريين مع أحداث غزة، بعضهم لأنه يعتبرها حلقة من سلسلة واحدة، تشمل العراق وسورية، غرضها النيل من الكتلة السنّية في المنطقة، مشيراً بالبنان إلى ما يبدو اتحاداً أو تواطؤاً بين القوى العالمية والإقليمية على ضرب الوجود الاجتماعي والسياسي للإسلام السنّي وتفكيك وجوده المشرقي، واضعاً المعارك الضارية ضد الجماعات الأصولية المتشددة في هذا الإطار. وبعضهم لأنه يراهن على صمود غزة في إرجاع بعض التألق لتيارات الإسلام السياسي بعد المثال المصري وما خلفه من ضرر على سمعتها وشعبيتها، نتيجة سعيها للاستئثار بكل شيء بعد وصولها إلى السلطة وانكشاف هشاشة التزامها بمصالح الناس وبالديموقراطية والدولة المدنية.
ويبقى أن هناك سوريين لا تعنيهم كثيراً حرب غزة، ربما لأنهم غارقون حتى النخاع في عذاباتهم ويكتوون بشروط حياة ظالمة لا تطاق، وربما لأنهم يشعرون بأن ما يعانونه ويكابدونه أشد وطأة مما يعانيه الفلسطينيون، وربما من باب الاعتراض على حرب سرقت الأضواء المسلطة على محنتهم. ولكن كل ذلك لم يحجب إمارات الحزن لدى غالبيتهم حين التطرق إلى أحداث غزة، وذاك القلق الإنساني من احتمال تطور غير محمود للحرب هناك، مشفوعاً برغبة صادقة بأن لا تذهب الأمور نحو إغراق غزة في دوامة عنف أعمى مديد كالذي يعيشونه يومياً.
استياء السوريين من المجتمع الدولي كبير بسبب سلبيته من مأساة المنطقة ومن هذا التمادي غير المسبوق في الفتك والتنكيل، وبسبب استهتاره المخزي بالأرواح التي تزهق وبالمجتمعات التي تدمر وبأحلام الأطفال البسيطة التي تهتك. ولا تقلل هذا الاستياء الصرخات الكثيرة المنددة بالعدوان الإسرائيلي، أو ما يدبج من عبارات وبمختلف اللغات لإدانة عنف الأنظمة والجماعات الارهابية، فهي إدانات لا تتجاوز برودة الكلمات، أحياناً تساق من باب رفع العتب، وأحياناً لامتصاص الضغط الأخلاقي الناجم عن مشاهد مروعة لا يحتملها عقل ولا ضمير، وأحياناً كي لا يذكر التاريخ أن الإنسانية لاذت بالصمت بينما آلات الموت والدمار تعمل بأقصى طاقتها.
والحال، إن الاستمرار في وأد حلم الشعوب العربية بالحرية والكرامة والاستهتار بحقوق الفلسطينيين، ربطاً بتقاعس المجتمع الدولي وتلكؤه في التعاطي مع صور العنف المفرط في غير بلد عربي ومع عنجهية الكيان الصهيوني ووحشيته، عوامل تغذي لغة الحروب ومنطق الغلبة والمكاسرة، وتغلق الأبواب أمام وسائل الحوار وقواعد الحياة الديموقراطية في إدارة الصراع، والتي من دونها لا يمكن تحقيق الأمن والاستقرار في المنطقة.
صحيفة الحياة اللندنية