حسن الحاج يعالج علاقة التكنولوجيا بالإنسان فلسفياً
إنه الفعل التقني، الذي كان ولا يزال بمثابة التعبير عن إرادة الإنسان ورغبته الشديدة في السيطرة على الطبيعة، وامتلاكها. من هنا، لجأ الإنسان منذ أن وجد على الأرض، إلى الفعل التقني للحفاظ على بقائه أمام أهوال الطبيعة، فيكون تطوّر التقنية ملازماً لتطوّره الفكري، وهو يظهر تارة تطوراً سريعاً وتارة أخرى تطوراً بطيئًاً.
هل استطاع الإنسان عملياً السيطرة على الطبيعة وامتلاكها؟ من أين يأتي هذا الفعل التقني؟ من الإنسان نفسه أم من الكينونة؟ وهل الإنسان الذي بدأ رحلة البحث عن الحقيقة منذ آلاف السنين سيجد في التقنية الحديثة المتمثّلة في ميادين التكنولوجيا المتطوّرة، معالم ظهور الكون والحياة، وبالتالي يتحوّل إلى مجرد مساهم في هذه الصيرورة في مسار ظهور الحقيقة؟
هذه الأسئلة وسواها يطرحها الباحث حسن الحاج أستاذ الفلسفة في الجامعة اللبنانية في كتابه «الإنسان المعاصر وإشكالية التقنية» (الدار العربية للعلوم – ناشرون، 2018) الذي يعتبره محاولة لمقاربة فلسفية لظاهرة التقنية التي أصبحت من أهم الإشكاليات المطروحة أمام وعي الإنسان المعاصر. فعلى الرغم من كثرة الدراسات والأبحاث الحديثة التي تعالج مسألة التقنية أو التكنولوجيا وأثرها في حياة الإنسان المعاصر، فإن قليلاً منها غاص في أعماق هذه المسألة من وجهة نظر فلسفية، إذ إن أغلبية هذه الدراسات والأبحاث تتناول موضوع التكنولوجيا من وجهة نظر إما سياسية أو اقتصادية أو سيكولوجية أو اجتماعية أو أيديولوجية.
من هنا، تأتي أهميه هذا البحث، ذلك أنه يطرح إشكالية التكنولوجيا وعلاقتها بالإنسان انطلاقاً من وجهة نظر فلسفية خالصة، ما يجعلنا نتأمل في علاقتنا الإنسانية بها، لنجد أن الأسئلة المطروحة هي أسئلتنا وإن أحياناً نتجنبها في وعينا.
ينطلق الحاج في رحلة البحث عن أجوبة لهذه العلاقة المتشابكة والملتبسة في آن بين الإنسان والتكنولوجيا، من المنعطفات والأنساق الأساسية في تاريخ التقنية بدءاً من النسق البدائي مروراً بأنساق التقنية القديمة والتقليدية والكلاسيكية وصولاً إلى النسق المعاصر، وقد هدف من هذا العرض السريع لأهم مراحل تطوّر الفعل التقني والتكنولوجيا، إلى جعل القارئ يستنتج أن حياة البشرية كانت تتغيّر على وتيرة التغيّر الحاصل في كل مرّة، في الميدان الخاضع للحلف القائم بين العلم والتقنية من جهة، والتناسب القائم بين وتيرة التغيّر في عالم التقنية والتغير في عالم الإنسان من جهة أخرى.
ليتوقف في فصل «التقنية: تغيير العالم والإنسان» عند غزو التكنولوجيا المعاصرة كل تفاصيل حياة الأفراد، والذي أدى تسارع وتيرة تطوّرها، إلى تغيير حياة الناس وسلوكهم على الصعيد الكوني، وإن كان ذلك بمستويات مختلفة مشيرًا إلى أن عملية تغيير العالم بدأت مسارها الطويل من خلال الحلف الذي قام بين العلم والتقنية على خلفية السؤال الفلسفي عن أصل الكون ومصيره.
إلا أن التغيير الحاسم بدأ يظهر مع ولادة التكنولوجبا الحديثة في الغرب. فرصد في هذا الفصل نصوص من كتبوا في موضوع التكنولوجيا ودورها في حياة الإنسان، مثل جيمس بيكر وفرانك كيليش ومن العالم العربي محمد الإسكندارني، وجميعهم طرحوا مسألة التكنولوجيا الملاصقة لمختلف ميادين حياة الفرد والمجتمعات، حتى ليكاد الإنسان الفرد مهما كانت سنه أو درجة علمه أو وظيفته، لصيقًاً بها وكأن لا حياة من دونها بل يمكن الادعاء، أنه لا وجود له من دونها، فكأنما كينونته تتحدّد بقدرته على التعامل مع التكنولوجيا
فيشير الحاج إلى أن منطق التغيير في العالم يذهب في اتجاه لا متناه، ويترافق مع مشروع الإنسان في السيطرة على الطبيعة، وفي كشف أسرارها وتطويعها وترويضها واستغلال خبراتها مع ما يرافق ذلك من مغامرات وأخطار وآمال وخيبات وصيرورة الانتقال من القديم إلى الحديث الذي يصبح أيضاً بالباً في إطار عملية التغيير الدائم ومنطقه.
ولكي يخدم الحاج إشكاليته الأساسية، تعامل مع كتاب جاك ألول «التقنية أو رهان القرن العشرين»، الذي جعله عنواناً لفصل، وثيقة ومرجعاً مهماً من بين الوثائق التي تعاطت مع موضوع التقنية والتكنولوجيا في حياة الإنسان فرداً كان أم جماعة، ليرى إلى كيفية فهم جاك ألول التقنية، وكيف يعرّفها، وكيف يركّز على النسق التقني الذي يطاول كل ميادين الحياة البشرية والآلة والطبيعة، ليهتم في شكل خاص بما يسميه ألول تقنيات الإنسان، التي تدخل في صلب إشكالية الإنسان المعاصر مع التقنيّة.
ومن جاك ألول، ينتقل الحاج إلى الفيلسوف الألماني مارتن هايدغر، من خلال طرحه مسألة «ماهية التقنية: خطر نسيان الكينونة أم إنقاذها؟»، مذكىاً ببعض مفاهيم هايدغر حول الكينونة والزمن والموجودات من خلال عرض المسألة الأساسية في الفلسفة كما يراها هايدغر، ثم يعرض بإيجاز وجهة نظر الفيلسلوف الألماني في مسألة التقنية.
فمن الأسئلة الإشكالية التي طرحها هايدغر: «هل تساءلنا ما إذا كنّا نريد التكنولوجيا من أجل سهولة الحياة ورفاهيتها أم من أجل الاستجابة لنداء الفعل التقني الذي يحاول التقاط ومضات الكينونة، مدّعياً كشف حقيقتها ومحاولاً تأويلها في ضوء ما يراه، ناسياً حقيقة أنّ الكينونة بقدر ما تتكشف فهي تختفي؟
ومن هايدغر، ننتقل إلى مسألة» العقلانية التكنولوجية ومنطق السيطرة»، حيث استعان الحاج بـهربرت ماركيوز من خلال كتابه «الإنسان ذو البعد الواحد» ويورغن هابرماس من خلال كتابه «التقنية والعلم كأيديولوجيا» وكلاهما تناول إشكالية علاقة الإنسان المعاصر بالتكنولوجيا وسيطرتها على المجتمع الإنساني.
فماركيوز قد رأى أن المجتمع الصناعي القائم على التكنولوجيا تحوّل إلى مجتمع أحادي البعد في النظامين الرأسمالي والاشتراكي، وبالتالي انعكس ذلك الوضع على الإنسان الذي أصبح أيضاً ذا بعد واحد نتيجة خضوعه لمنطق سيطرة العقلانية التكنولوجية التي فرضت نفسها كنمط إنتاج عالمي وفرض التكنوقراط أنفسهم على المجتمعات في أي مكان في العالم، وبالتالي تتحكّم الشركات العالمية في الأسواق وفي القرارات الاقتصادية للدول، فإنها تتحوّل إلى عقلانية شمولية تفرض الوجه الثقافي للكون وتولّد عالماً تاريخياً كاملاً.
وهنا، طرح الحاج مسألة الحرية الذي رأى أن حرية الإنسان المعاصر ليست سوى تجريد للوعي، وتخيّل لحريّة افتراضية، ووجد نفسه أمام صيرورة حتمية لتطوّر الأدوات والوسائل والأنساق والمفاهيم التقنية عبر التكنولوجيا الحديثة التي فرضت عقلانيتها على أنماط الفكر في سائر قطاعات الكون.
أما هابرمس فلم يخفِ الحاج خشيته من التراكم العقلاني لتحليلاته التي تولّد حالة من المراقبة وعدم الانعتاق. فهابرمس يرى أن النسق الاجتماعي محدّد بمنطق التقدمين العلمي والتقني، معنى ذلك أن التقنية أصبحت تهدّد النسق الاجتماعي بما في هذا النسق المجتمعي والسياسي.
في فصل»تأملات معاصرة»، يرى الحاج أن الإنسان المعاصر الذي يفتخر بأنه وريث الحداثة الفلسفية والعلمية والتقنية بدأ ينوء تحت أثقالها وسلطاتها بدلاً من أن يحقّق من خلالها مشروع السيادة على الطبيعة وامتلاكها. وهذه مفارقة شكّلت الأرض الخصبة لطروحات ما بعد الحداثة التي انتفضت تجاه السلطات وتجاه العقل التركيبي الكلي أو الشمولي والعقل التكنولوجي. فالمعضلة التكنولوجية طرحت على الإنسان المعاصر مسألة المصير، وبالتالي مسألة مسؤولية الإنسان الراهن تجاه مستقبل البشرية.
في ختام الكتاب يؤكد الحاج أنه ليس في الإمكان أن تختم هذه المسألة الإشكالية، طارحاً أسئلة هي في ذاتها إشكاليات نعيشها. فيسأل هل يمكننا إيقاف هذا السباق المحموم بين المعرفة والوجود، بين الفكر والممارسة، بين النظرية والتطبيق، بين الوعي والمادة، بين النفس والجسد، بين الثقافة والطبيعة بين العقل والعاطفة، وبين العلم والتقنية؟ هل نستطيع أن نرصد حصيلة نهائية لصيرورة تصير؟
هل نتمكن من قولبة كينونة تصير ومن نفي صيرورة تكون؟ أسئلة تجعلنا في مواجهة ذواتنا نتساءل عن الحالة الاستيلابية التي فرضتها علينا التكنولوجيا المعاصرة. ونسأل كما الحاج، هل بدأت الثقافة رحلة عودتها للاندماج في الطبيعة لتحقّق مشروع الأنتروبولوجيا البنيوية من خلال مشهد مراحل غروب البشرية كما بشّرنا كلود ليفي ستروس؟ وهل تحوّلت الرغبة التاريخية في السيطرة على الطبيعة نعمة على البشرية أم نقمة؟
صحيفة الحياة