حقول القتل والحيوات المبعثرة في روايات أجنبية
عديدة هي الروايات الغربية التي تحدثت عن الحرب الأهلية التي عرفناها في لبنان قبل أربعين سنة، والتي يعتبرها البعض أنها لا تزال حاضرة وإن اتخذت أشكالا مختلفة. حاولت تلك الروايات أن تقدم صورة للرعب والعنف عبر كتب نحا بعضها إلى المتخيل، بينما نحا بعضها الآخر إلى التجربة المعيشة، أي إلى نوع من سيرة ذاتية مخفية، إذ هناك كثيرون من هؤلاء الكتاب، أتوا إلى لبنان وعاشوا فيه.
في أي حال، لا تهدف هذه المقالات ـ (حول الرواية الأجنبية وعلاقتها بحرب لبنان، أو لنقل بحروبه) ـ التي تحاول أن تستعيد ما كتب، أن تقدم محاكمة لهذا الأدب، بل هي محاولة للاطلالة على توصيف هذا العنف الذي لا يسعنا إلا أن نستفيد من تجربته لعل وعسى «نتقي» منه.
هنا حلقة أولى تحاول أن تؤسس لوحة شبه بانورامية مثلما تعرض لكتابين هما «التزوير» للكاتب الألماني نيكولاس بورن، و»إنشاء الله» للكاتبة الإيطالية أوريانا فالاشي، على أن تتبعها حلقات أخرى عن روايات مختلفة.
لم تكن بيروت (ولبنان بعامة)، كما العديد من مدن الشرق الأخرى، بعيدة عن الأدب الغربي، وبخاصة عن الأدب الفرنسي تحديدا. فلو عدنا إلى القرن التاسع عشر، لوجدناها حاضرة في العديد من كتب «الرحالة» الذين أتوا إلى بلادنا وزاروها، لا سيّما المستشرقين منهم.
يمكن لنا أن نفهم هذه الخاصيّة في سياقها الأساسي أولا. من دون شك، كان لحملة بونابرت على مصر الدور الكبير في ذلك. وربما هو دور مزدوج، أي أن يعيد الغرب اكتشاف الشرق، مثلما أعاد الشرق اكتشاف هذه الهوّة الكبيرة التي أصبحت تفصله عن تلك البلاد. لكن وفي ظل كلّ تلك الأحداث التي عرفتها المنطقة، ربما يتوجب علينا تعيين الأمر الأكثر حضورا في هذا المشهد: كانت المرحلة الرومنسية في الأدب الغربي (والفرنسي) تتطلب البحث عن تلك الأحاسيس القوية، ولنقل «الاكزوتيكية» التي لم يعودوا يعرفونها في بلادهم في ظلّ صعود العصر الصناعي.
إزاء ذلك شكلت الرحلة إلى الشرق مصدرا من مصادر البحث عن هذا الالهام في الكتابة، الذي يفترق افتراقا كليا عن اللحظة التي كانوا يعيشونها في بلادهم. لقد شكل لهم الشرق كلّ هذه الاستيهامات والتهويمات التي كانوا بحاجة إليها للابتعاد عن واقعهم. من هنا جاءت الأخيلة التي عاشوها وكأنها تضفي واقعا جديدا لا على الكتابة فقط، بل على الحياة بكلّ تفاصيلها. يكفي أن نذكر في هذا السياق رحلة شاتوبريان، ورحلة فلوبير وما كتبه أيضا لامارتين وألفرد دوموسيه وغيرهم ممّن أتى إلى هنا وكتب عن بلادنا.
في الكتابات الأولى التي تناولت بيروت – ولبنان عموما، كما بعض البلدان العربية والشرقية – كنّا نقع على تلك الأجواء السحرية التي تلف كلّ شيء، وكأن الأوروبي، عبر توصيفه، أفرد مساحات واسعة لا لخياله فقط بل لتهويماته التي كان يريد أن يلصقها بواقع يحياه من أجل تخيل واقع آخر على هواه هو.
في أي حال يمكن القول إن هذا الأدب غاب لفترة طويلة عن الكتابة الغربية، أي أن بيروت – (وأحدد هنا الكلام عن هذه المدينة بمناسبة ذكرى الحرب الأهلية الأربعين) – توارت لفترة طويلة، قبل أن تعود لتحضر من جديد، وربما بقوة، بدءا من نهاية ثمانينيات القرن المنصرم، وتسعينياته. فالعاصمة اللبنانية وما عرفته من حروب ودمار، كانت الموضوع الرئيسي لأكثر من عشرين كتابا – على أقل تقدير – تتوزع على الرواية والسرد والرحلة وحتى بعض القصائد.
الملاحظة الأولى، في هذه الكتابات الجديدة التي تناولت بيروت موضوعا لها، أنها لم تعد تسرد علينا هذا «الانبهار الاستشراقي» الذي كان يسيطر على مخيلة كتّاب القرن التاسع عشر ولا على رحالته. بل أصبحت المدينة صورة «مثالية» عن العنف والدمار والمعارك، و «حجة» لطرح الأسئلة على الشرط الإنساني.
ثمة ملاحظة ثانية لا بدّ أن تلفت انتباهنا، وهي أن هؤلاء الكتّاب الجدد الذين أتوا إلى هنا وبخاصة الفرنسيين، ينقسمون إلى «جيلين»، جيلين لم يعرفا هذه المدينة إلا في زمن المصائب وكأنها كانت تذكرهم بماضيهم «الثوري» أو على الأقل بأحلامهم الثورية التي انتظموا بها خلال أحداث أيار 1968، مثل أوليفييه رولان في روايتيه «جناح في فندق كريستال» (1999) و «نمر من ورق» (2002)، كذلك برنارد فاليه في كتابه «مشاهد مع أشجار النخيل» (1992) وغيرهما بالتأكيد.. (سنعود إلى حالة ريشار مييه لاحقا، إذ يبدو أنه أكثر الذين «تأثروا» ببيروت وبـ «حروبها» وبخاصة إنه أمضى طفولته ومراهقته هنا).
أما الجيل الثاني، فهو الجيل اللاحق الذي ولد مع سبعينيات القرن الماضي، ومن بين أسمائه البارزة ماتياس إينار وأوليفييه رويه ولوي مانيان. بعض أفراد هذا الجيل سكنوا فيها كإينار الذي أمضى سنوات طويلة هنا، وبعضهم الآخر زارها على فترات ومنهم لم يحيا فيها مطلقا. وإن كان ثمة تشابه عند أبناء هذا الجيل فيتمثل في أن بيروت ليست مدينة حياة على الإطلاق بل هي مدينة موت وحرب أهلية مستمرة، بمعنى أن شبح هذه الحرب لا يزال يخيم عليها ما يدفع «إلى تأريق الوعي»، هذا الوعي الذي لا يزال يحمل «الدمار والأبنية المبقورة والجدران الموشومة بآثار الحرب والنفايات والأعشاب الضارة التي احتلت الأمكنة التي كانت على قيد الحياة ذات يوم».
التزوير
قد تجدر الإشارة هنا، إلى أن ثمة حروبا أخرى كتب عنها بعض الروائيين الفرنسيين مثل حرب تموز 2006 كما فعل جان رولان في كتابه «كلب نفق من بعدي» (2009). لم تكن بيروت البطل المطلق في كتاب جان رولان هذا، إذ إنه يصف مدنا كثيرة ويتحدث عنها، بل هي تشكل فصلا من فصول الكتاب وهي تجربة شخصية في الواقع، إذ أتى الكاتب الفرنسي خلال حرب تموز ليكتب سلسلة مقالات لمجلة «لو نوفيل أوبسرفاتور»، ومن هذه التجربة عاد ليكتب في ما بعد عن «حيوات الناس بأسرها التي تفتتت إلى قطع مبعثرة نبحث فيها ونحن نسير فوق هذه الحصالة».
في أي حال، لو عدنا إلى سيرة الحرب اللبنانية الأهلية مثلما تبدت في الرواية الغربية، وأحببنا أن نضع تقويما كرونولوجيا لوجدنا أن من أولى الروايات التي عالجت موضوع هذه الحرب كانت رواية ألمانية لنيكولاس بورن بعنوان «التزوير» (ترجمها إلى العربية حسين الموزاني وصدرت عن منشورات الجمل)، وهي رواية صدرت في العام 1979، قبل موت مؤلفها بأشهر قليلة.
تتحدث رواية «التزوير» عن صحافي يدعي جورج لاشن، وهو مراسل يكتب عن الحروب، تكلفه صحيفة ألمانية شهيرة، من مدينة هامبورغ، بالسفر إلى بيروت لتغطية الأزمة التي تجتاح تلك المنطقة من العالم (مع بداية الحرب الأهلية في لبنان)، وحين يصل ويتواجه مع الحرب تطفو أزمته الشخصية على السطح: كان يجد صعوبة كبيرة كصحافي في مواجهة الواقع و «ألعاب الحرب»، إذ رأى أنه من السراب ومن المستحيل أن «يترجم» الواقع كما هو من خلال الكتابة. المأزق الذي وقع فيه لاشن تمثل في أنه وجد نفسه غريبا عن هذه المهنة التي مارسها طويلا، إذ عبر التداعيات التي انعكست عليه، بدأ بالتساؤل حول معنى إعادة اكتشاف الإنسان في علاقته مع الأحزاب والتنظيمات المسلحة من جهة، كما مع المصالح السياسية من جهة أخرى.
إحدى القراءات الممكنة لهذه الأزمة التي يعرفها «لاشن» تكمن في استذكاره ماضي بلاده التي عرفت حربا رهيبة ولكن أيضا ما كان يجعله يهدأ قليلا أن بلاده لم تستعمر هذه المنطقة من العالم، ما أتاح له أن يكون على علاقة جيدة مع الجميع، أي كان ذلك الأوروبي المحايد الذي رأى أن المسيحيين والمسلمين بكل مذاهبهم يشتركون في جريمة واحدة: يقتلون بعضهم البعض ليخلص إلى أنهم عرب لا يقتلون سوى العرب.
في أي حال، عبر مشاهد عديدة من الحياة اليومية لمدينة واقعة في ظل الحرب التي تنهكها يكتب بورن روايته هذه المليئة بالتوصيف أحيانا لمشاهد المعارك والقصف والمجازر التي ارتكبت من قبل جميع الأطراف، وكأنه يعيد رسم خرائط الكراهية التي اجتاحتنا ولم نكن نشعر بها في لحظتها الآنية..
إن شاء الله
من الروايات التي رسمت خرائط الكراهية هذه، نجد كتاب الإيطالية أوريانا فالاشي «إن شاء الله» التي حاولت فيه ـ وبالرغم من كل الموت ـ أن تقدم صورة لانتصار الحياة. مثل زميلها الألماني، عملت فالاشي في الصحافة وكانت مراسلة حرب لبلادها في فيتنام وبنغلادش وأميركا اللاتينية والخليج والشرق الأوسط، من هنا لم تكن غريبة عن جو الحروب، لتستخلص منها روايتها هذه التي صدرت في ميلانو العام 1990.
تأخذنا «إن شاء الله» إلى قلب بيروت خلال فترة الحرب، حيث اجتاحتها مجموعة من الكلاب التائهة التي كانت تغزو المدينة خلال الليل. من عاش الحرب يتذكر تلك الفترة حيث أفلتت تلك الكلاب من وسط الأسواق التجارية كما قيل يومها. في الرواية تشكل هذه الكلاب المتوحشة رمزا، نجده في الصفحة الأولى كما في الصفحة الأخيرة.
بيد أن نقطة انطلاق الرواية الفعلية عند فالاشي تكمن في لحظة الهجوم على القوات المتعددة الجنسيات التي أتت بعد الاجتياح الاسرائيلي للبنان والانفجار الذي تعرض له مقر المارينز كما مقر القوات الفرنسية الذي خلف عددا كبيرا من القتلى، ما جعل هذه القوات تنسحب سريعا من لبنان.
من هذه الأحداث تنطلق الكاتبة في توصيف رعب الحرب عبر حوار متخيل رغبت في أن تجعله محاكمة لكل أنواع الحروب التي لم تجد فيها سوى حقول للقتل. لذك يأتي كلامها من دون أي تسويغ وبعيدا عن أي نرجسية (إذا جاز القول)، لترسم لوحة كثيفة مليئة بالرعب والخوف لكن أيضا بالشجاعة والحب عبر تفاصيل عديدة، وكأنها تريد القول إنه على الرغم من كل هذه الأهوال يمكن للكائن البشري أن يجد إنسانية ما مفقودة، لأنها ليست بعيدة عنه. من مجازر صبرا وشاتيلا إلى قدر الفلسطينيين، ومن بيروت التي يلفها الدمار إلى البحث عن الأمل، تبدو الرواية أشبه بفيلم سينمائي يحاول أن يبث لنا صورا عن العنف عبر عنف الكلمات المستعملة وعن الواقع بكل بهيميته، وعن مصائر أشخاص يتلاقون ويفترقون ويموتون وبالطبع منهم من يبقى على قيد الحياة ليحمل لاحقا كل هذه الذاكرة الدامية.
صحيفة السفير اللبنانية