بدأتُ أسحب خيوط الحكاية وأجمعها عندما ألقيتُ القبض على حمامة شامية من أنواع “الستاتي”، عند جذع شجرة اليافاوي في بيتنا العتيق، وهذا النوع من الحمام جذّاب يتدحرج بين أرجل المارة ودواليب السيارات، ويطير بين أعمدة المساجد وسقوفها، ويتجمع حيث ينثر الناس القمح له في الساحات العامة.
عندما أمسكت بالحمامة الشامية (الستيتية)، قررتُ أن أصبح “كشاشا” للحمام، فعند سفح جبل قاسيون عدد من هؤلاء “الكشاشين” من مختلف الأعمار، وكنت أراقبهم وتسحرني نظراتهم التائهة في السماء حيث تذهب أسراب حمامهم بعيدا عنهم، أو عندما يعود سرب أحدهم مصطحبا معه عدة حمامات إضافية.
كان عمري تسع سنوات، وكان من السهولة بالنسبة لي أن أتعلق بأي هواية أو مهنة سلسة مسلية، ولذلك أنشأت للحمامة الشامية التي اصطدتها بيتا جميلا على سطح بيتنا القديم في منطقة الجسر الأبيض، واقتنيت عصا صنعتها من أحد الأغصان القوية وربطت في نهايتها خرقة بيضاء، مزقتها من مناديل أمي، كما يفعل الكشاشون، ثم اشتريت نصف كيلو من القمح لأطعمها، وحلمتُ في أول ليلة من مشروعي أنني كشاش حمام خارق، فقد حلقت في السماء ورحت ألوح لحمام أبيض كثيف يطير في سماء دمشق من فوق الغيوم، وأدعوه ليطير مثلي هناك في الأعالي !!
لم تكن الفكرة قد نضجت تماما، فكيف أغامر وأترك أسيرتي تطير كغيرها في سماء مفتوحة على المدى. خفت أن تهرب أو أن تقع في شباك هواة كش الحمام القريبين من بيتنا، لذلك ذهبت إلى أحد كشاشي الحمام لاتعرف على أصول ومستلزمات الهواية منه، وفي الطريق إلى (الحميماتي أبو سمرة كشّو)، كما كانوا يسمونه، تذكرت شيئا ما قاله أبي، وفيه أن (الحميماتي) مجنون وكذاب ولا تقبل شهادته ويحلف بالطلاق من أجل فرخ حمام !
أخافني هذا الهاجس، ومع ذلك صعدتُ إلى السطح لأجد (أبو سمرة كشّو) يلهث وهو يلوّحُ لسرب حمام اختلط مع أسراب أخرى عند سفح قاسيون، وكان يخاطبه بأصوات لا أجيد إصدارها، ولا أعرف ترجمتها ، قبل أن يلتفت إليّ ويسألني متفاجئا :
ــ ماذا تريد ؟ من أدخلك إلى هنا في هذا الوقت يا ولد؟ فقلت له :
ــ أنا من حارة المؤيد العظم، أريد أن أسألك عن كش الحمام !
استجابت الأسراب لتلويحته وحط الحمام الضائع قربنا يلتهم القمح، فتفرغ لي أبو سمرة يستفسر عما أريد :
ــ ليس عندكم حمام في حارة المؤيد .. هل تريد أن تبدأ بكشة صغيرة تشتريها من عندي ؟! فقلت: ــ عندي ستيتية !
ضحك أبو سمرة بصوت عال، وقال:
ــ ستيتية ؟! حرام. اتركها. هذه لاتصلح لكش الحمام.. الستاتي للمساجد لتسبح ربها وتدعو لنا بالأمان والسترة !
وسألته بفضول :
ــ هل صحيح أن الحميماتي مجنون وكذاب ولا تُقبل شهادته في المحكمة ويحلف بالطلاق كذبا من أجل فرخ حمام !
رد أبو سمرة بنزق :
ــ يقولون ذلك . نعم .. ومن يقول ذلك لايعرف حقيقة كش الحمام !
وأصغيت إليه. كان الحمام المتجمع قربنا ينقر حبات القمح دون أن يبالي بحديثنا ، وكانت أنواعه كثيرة وأشكاله تسحر اللب في حركاتها، لكن حكاية أبو سمرة كانت الأجمل من كل ما عرفته في تلك الزيارة، فقد قال وكأنه يبوح بشيء أخفاه زمنا طويلا:
ــ أول كشاش حمام، في الشام، كان فتى صغيرا مثلك في مقتبل العمر، يحب فتاة من فتيات الشام الحلوات، وكان اسمها: (طلّة)، وسميت كذلك لأنها تشبه الغزالة، وكان ينتظرها كل أسبوع، عندما تأتي لبيت جدها في بساتين القنوات، وكان يحلم أن تصبح طلّة له، ومرة قال لأمه : عندما أتزوج سأخبرك من هي التي أريدها. فضحكت، وقالت له: قبل أن تفكر في الزواج ، انتظر حتى ينبت الشعر في شاربيك!
وقال أبو سمرة:
اختفت طلّة فجأة، ولم تعد تأت…!
تركني، وانهمك في التلويح لعدد من الحمامات كن يترددن في الهبوط، وعندما هبطن عاد ليتابع حديثه عن الفتى . فقال:
ــ عندكم في حارة المؤيد العظم لا يعرفون هذه الحكاية. أغلب سكان هذه الحارة من الفلاحين أو من النازحين الشركس الذين جاؤوا من القنيطرة في الحرب، أما الشوام فيعرفونها!
وسألته من جديد:
ــ هل ماتت (طلّة)؟!
ــ لا ! رد أبو سمرة سريعا، وكأن طلّة أصبحت جزءا من ذاكرته مع الحمام، وتابع تفاصيل الحكاية وهو يسردها لي وأنا أصغي باهتمام:
ــ ذهب الفتى إلى صاحب البستان، أي جد تلك الفتاة، وسأله عنها. ضحك الجد، وعرف أن الشاب وقع في حبها، فقال له ساخرا: أعجبتك ما؟!.. لقد طارت طلّة وانتهى الأمر!
لم يصدق الفتى أنه يمكن للفتاة أن تطير، فسأله: كيف تطير البنت؟ فرد الجدّ : طارت هكذا! ووضع كفيه فوق بعضهما محركا ابهاميه كجناحين!
وقام أبو سمرة بتقليد حركة الكفين، وهي إشارة جنسية يفهمها الكبار على أنها تزوجت، وفهمت مايقصده ، وتابعت حديثه بشغف بالغ :
ــ لم يتمكن الفتى من نسيان طلّة. كانت تتراءى له في أحلامه كحمامة بيضاء سحرية تطير في سماء واسعة، ولذلك جاء بغصن طويل قوي وربط فيه قماشا أبيض وصار يلوح للحمام العابر كي يأتي إلى سطح بيته ليطعمه لعل طلّة التي أسرت قلبه تكون بينه فراخه!
جلس الحميماتي أبو سمرة كشّو على صندوق خشبي وأشعل سيكارة وأخذ يعب وينفث دخانا كثيفا منها، وروى لي ماذا جنى ذلك الفتى من أحلامه:
كلما لوح الفتى لحمامة عابرة استجابت له وهبطت على سطحه، لتأكل القمح الذي نثره لها، فحط عنده مختلف أنواع الحمام: القلاّب والغزّار والكشميري والأسود مسود واليهودي وبايملي أسود ومرقع أسود و الأرجاني أورفلي والاسترالي والعبسي والعنبري والنفاخ الزاجل.. كل هذا الحمام زاره واستقر عنده ، إلا طلّة ، فلم تأت ، و كانت صورة كفي جدّها تفرض نفسها عند الفتى في كل مرة !
عادت حمامات أبو سمرة تطير وتتجمع فوقنا، وسريعا عاد إلى التلويح لها، وإصدار الأصوات التي تفهمها هي، وكانت أسراب حمام أخرى تجاور أسرابه، فانشغل عني نحو نصف ساعة وأنا أرقب حركاته . ووجدتُ نفسي أهمُّ بمغادرة المكان ، فناداني :
ــ كلنا ننتظر (طلّة)، لعلها تقع في شباكنا ..
وضحك، أما أنا فأقلعت عن فكرة كش الحمام، ورحت أبحث عن (طلّة) تخصني بين فتيات الشام على الأرض إلى أن وجدتها!