حكاية الشرطي الذي شاركني رأس السنة!
حكاية الشرطي الذي شاركني رأس السنة! …صار عمري أكثر من ستين عاماً، وأنا أتذكر تلك اللحظة، وأعجز عن إيجاد الجواب المناسب للسبب الذي جعل الشرطي يغلق الباب بهذه الطريقة. أنصت إليّ، وأنا أقدم له التهنئة بالعام الجديد، ثم بصق في وجهي، وأطبق الباب بقوة جعلت قلبي ينخلع من مكانه.
ارتميت على الأرض وحيداً في الغرفة التي وضعني فيها. وهي غرفة مكعبة مغلقة من فوق ومن تحت ومن الجهات الأربع، لا تدخلها الشمس ولا الهواء، ولا تخرج منها الرائحة، وإذا مات ساكنها تبقى روحه فيها إلى الأبد !
سمعت أجراس الكنائس : طن ، طن، طن .
وأنا أحب الكنائس والصوامع والمساجد التي”يُذْكَرُ فِيهَا اسْمُ اللَّهِ كَثِيرًا”، فالله هو المحبة والتسامح، وقبل ألف وتسعمائة واثنين وثمانين عاماً من تلك اللحظة ، ولد السيد المسيح، ليقول لنا “هَذِهِ هِيَ وَصِيَّتِي أَنْ تُحِبُّوا بَعْضُكُمْ بَعْضًا كَمَا أَحْبَبْتُكُمْ”، ولهذا زعلت من الشرطي، وقررت أن أعاتبه . ناديته ، وهو يبتعد عن الباب :
ــ أنا أحببتك، فلم لا تحبني؟!
أصدر صوتاً ممطوطاً من مؤخرته، وتركني أستعيد نفسي من نفسي في لحظة خاصة من الزمن..
بعد دقائق، طرقت الباب، فعاد الشرطي يتهكم بي:
ــ ماذا تريد يا ابن العرص ؟!
فتح الباب. وصرخ بوجه أسود متوتر:
ــ ولكْ حيوان ، إذا دققتَ الباب مرة ثانية سأخلع رأسك عن جسدك، وأرميه للكلاب!
رددت بسرعة :
ــ أريدك أن تكون سعيداً، فالليلة لها وقع خاص عند البشر..
هز رأسه غيظاً. أغلق الباب بقوة. ابتعد وقعُ أقدامه ، أما أنا فوقفت في قلب الغرفة مدهوشاً، وأنا أفكر : “هذا لايملك إحساس البشر!”..
جاءني صوتٌ :
“بِهَذَا يَعْرِفُ ٱلْجَمِيعُ أَنَّكُمْ تَلَامِيذِي: إِنْ كَانَ لَكُمْ حُبٌّ بَعْضًا لِبَعْضٍ”
تحمست، وطرقت الباب مرة أخرى، فلم يرد. كان الشرطي بعيداً عن بابي. فصرت أكرر الطرق على الباب إلى أن يأتي، فجاء بعد دقائق، وفتح الباب فواجهته بكلمات قليلة :
ــ نحن بشر أيها الشرطي. طول بالك علينا !
فإذا به، ينقض عليّ كوحش كاسر، ويخرجني من مكاني، وينهال عليّ ضرباً، وهو يصرخ :
ــ ياحقير يا ابن الحقير .. إذا طرقت الباب من جديد سأدوس على رأسك بالصرماية. ثم أبول عليك داخل غرفتك وأترك لتحتفل على كيفك.
وأمرني :
ــ يجب أن يختفي صوتك حتى الغد !
وبعد أن تعب من ضربي رفسني بقدمه فوقعت على وجهي في أرض الغرفة ، ثم أطبق الباب وهو يهلوس : ” الحقير ابن الحقير لا يفهم إلا بالضرب. قال كل عام وأنت بخير قال” !
حزنتُ. اسودتْ الدنيا في وجهي. جلست على الأرض أسند رأسي على ركبتي وأبكي. أحسست بوجع في أنحاء جسدي. وكآبة شديدة تهيمن علي.
سمعت أجراس الكنائس : طن ، طن ، طن ، طن .. ثم جاءني صوت : ” فإن كنتم تغفرون للناس زلاتهم، يغفر لكم أبوكم السماوي زلاتكم. وإن كنتم لا تغفرون للناس زلاتهم، لا يغفر لكم أبوكم السماوي زلاتكم..” .
نهضت، وكان الوقت قد اقترب من منتصف الليل. طرقت الباب بقوةٍ وإلحاحٍ وتصميم وتحدٍ ، وناديته :
ــ عدْ أيها الشرطي . عدْ فأنا أريدُ أن أتحدث معك !
مضى وقت دون أن يأتيني الرد. مرت خمس دقائق والصمت يخيم على المكان، الوقت يمضي سريعاً باتجاه العام الجديد، وأنا أنتظر عودته .
فجأة جاءت خطواته . خمّنت في نفسي : ” هذه المرة سيبول علي ويصلبني ويتركني إلى الصباح!” .
عاد الشرطي هادئا ً. فتح باب الغرفة المكعبة. رأيته بقامته الرياضية، ووجهه العبوس. كان يحمل بيده شمعة مطفأة، وضعها على الأرض، وأشعلها. وجلس قبالتي، كنت أجلس في أرض الغرفة، وهو يجلس عند بابها، حدّق بي بإعجاب، وسألني :
ــ ألا تمل ؟!
اُطلق رصاصٌ في الخارج . وترامت إلينا أصوات الألعاب النارية . كان ثمة نافذة فوق الغرف المكعبة . تنقل لنا أصداء ما يحدث خارج القبو . قلت له :
ــ لقد حل العام الجديد. هل تسمع مثلي أصوات الاحتفالات .. أهلي واهلك يفرحون الآن ، ويسألون عنا . ؟
أصغى قليلاً. رأيت وجهه، الذي يشبه وجه وحش، قد تغيّر. عاد طفلاً بريئاً يفرح بلحظة كرنفالية مدهشة. همستُ بكلمات سلسلة :
ــ هل أنت عاشق ؟
هز رأسه. حوله السؤال إلى إنسان شفاف جميل. دققت في ملامحه، فإذا هو أكثر وسامة مما توقعت، يرتدي معطفاً عسكرياً ومن تحته قميص أزرق، طرحتُ سؤالاً جديداً بصوت أكثر سلاسة :
ــ ما اسمها ؟!
فرد بصدق طفولي :
ــ بدور!
شرد عني. ذهب في أفكاره بعيداً عن الغرف التي يشرف عليها في ذلك القبو اللعين. ثم حدق في وجهي فرآني أبكي، فبكى، تخضّلت عيناه بالدموع. سألني :
ــ وأنت ما اسمها ؟!
قلت له :
ــ قمر !
ابتسم وقد استدار وجهه واحمرت وجنتاه .
فكّر قليلاً، ثم تغيّرت ملامحه، ورأيته ينهض، يرمقني بغيظ، ثم يغلق الباب بقوة لتنطفئ الشمعة وينخلع قلبي من مكانه، كما حصل في المرة الأولى، ثم صاح :
ــ جنني ابن العرص !