حكاية حنا يعقوب التي تخلع القلوب (ميسلون هادي9
ميسلون هادي
لغة ربيع جابر في روايته ‘دروز بلغراد’ لغة سينمائية ثلاثية الأبعاد تهرول بنا بسرعة إلى أمام، كأنها تسابق القارئ بسيل من الهجمات وتقوده على الدوام.
ربيع جابر الحائز على جائزة بوكر العربية للعام 2012 عن روايته (دروز بلغراد – حكاية حنا يعقوب)، كاتب غزير الانتاج أصدر أكثر من إثنتي عشرة رواية وهو لم يبلغ الأربعين من عمره، وكما تشير سيرته الذاتية إلكترونياً على الويكيبديا فإن إختصاصه علمي، ويحمل شهادة الفيزياء من الجامعة الأميركية ببيروت، ولكن مشروع حياته كما يبدو من رواياته، هو البحث في التكوين الداخلي للتاريخ لخلق حكايات مذهلة مستندة إلى مراجع تاريخية موثوقة، وابتكار شخصيات تراجيدية تقوم بتحويل هذا التاريخ المظلم إلى رسالة إنسانية هدفها التنديد بالظلم والعنف الطائفي والقسوة اللامتناهية للبشر عندما يبدلون إنسانيتهم بولاءات طائفية أو قومية أو عرقية ضيقة.
(حنا يعقوب)، بطل الحكاية، يعمل بائعاً للبيض في مرفأ ببيروت. يخرج ذات يوم لتحصيل رزقه ولكنه لا يعود إليه إلا بعد ستة عشر عاماً.. فالباشا الذي ساق خمسة من أولاد الشيخ غفار الدرزي إلى منفاهم الصربي، سيعفو عن واحد منهم فقط ليتم استبداله فيما بعد ببائع البيض المسيحي حنا يعقوب، الذي شاءت لحظة نحس أن يتصادف وجوده في المكان الخطأ والزمان الخطأ، فيلقي عليه الجنود القبض ويساق مع المساجين إلى الباخرة، من أجل أن لا يكتشف القنصل الفرنسي رأساً ناقصاً بين الرؤوس التي قيدت أجسادها بالسلاسل في المرفأ. وهكذا يلبس حنا يعقوب الطاقية الدرزية ويصبح اسمه سليمان غفار عز الدين نيابة عن الرأس المفقود. وهنا تخلع الرواية قلوبنا مرتين.. المرة الأولى عندما يطلب الباشا من الأب الشيخ غفار الدرزي أن يختار واحداً من أبنائه ليخلصه من المنفى ويصحبه معه إلى البيت.. والمرة الثانية عندما يصرخ بائع البيض: أنا حنا يعقوب، مسيحي من بيروت. فيسأل القنصل الفرنسي الترجمان: ماذا يقول؟ فيجيب الترجمان: يقول: أنا )قتلت) حنا يعقوب. مسيحي من بيروت.
بعد هذا المشهد المؤلم ستقطع الرواية أنفاسنا المرة تلو المرة، ستبدأ رحلة الأهوال مع بائع البيض الذي تم تزويره باطلاً على إنه درزي قتل مسيحياً. يساق مع باقي الدروز إلى المنفى في بلغراد مع أخوة سليمان الحقيقين الأربعة الذين أصبحوا أخوته بالمصير الأسود بعد أن جعله الجنود ينتحل اسم أخيهم الدرزي الذي عفا عنه الباشا.
في المنفى حيث يتحول حنا يعقوب إلى الشيخ سليمان الدرزي سيكون الموت أهون على الجميع من تلك العذابات التي حطمت أجسادهم وأرواحهم في قبو مظلم وبارد تحت الأرض. وبلا قصد، ستنقذهم نازلي خانم، عشيقة جودت باشا، صاحب بلغراد، فتخرجهم من جهنم القبو إلى البساتين ليعملوا في القطاف.. أجسامهم المدمرة من الحبس الطويل، ستخرج إلى مكان بدا لهم كالجنة بألوانه وأشجاره وروائحه المسكرة.. وعند الحديث عن الطبيعة وتفاصيلها من نباتات وطيور وأمكنة، يستعمل ربيع جابر لغة حسية ساحرة تجعلك ترى المناظر وتشم الروائح وتسمع الأصوات وتتذوق الثمار وتحس ملمس الأشياء.. بل إن هذه اللغة تستعمل مفردات أنثوية بارعة تكشف عن انتباهات مدهشة في ما يتعلق بالعالم البيتوتي للنساء، وذلك عندما يكون المكان الروائي داخل جدران بيت حنا الحميم بدفئه في بيروت فتصبح كلماته لها لون وطعم ورائحة.
مونتاج الرواية مقصود لكي تكون فصولها قصيرة جداً.. ولكنه يحدث خللاً فيها أحياناً عندما يمر زمن طويل على وصول حنا الحبيس إلى بلغراد في أحد الفصول، بينما نجد هيلانة زوجة حنا تبحث عنه، في فصل لاحق، بعد الليلة الأولى لإختفائه.. وثمة فصول أخرى أسترسلت في حكاية قصص أخرى للمساجين كانت أكثر وجعاً من قصة حنا يعقوب أو صفحة مكملة لها في دفتر الألم، وفي حالة افتراض إن هذه الرواية لا تخاطب النخبة فقط، سيبدو هذا التقسيم مربكاً لبعض القراء.. ولكن هذه الأجزاء الموجزة سهلت على الكاتب التنقل بين الأمكنة والأزمنة ليضعنا بين صفحة وأخرى من صفحات الرواية التي تزيد على المئتين، بين عوالم زاخرة بالمعلومات والوقائع والتواريخ فينتقل ببطله من مكان الى آخر مقدماً من خلاله بانواراما أو خريطة مفصلة للزمن العثماني في نهايات القرن التاسع عشر، مجاوراً بين التاريخ المكتوب (الذي يثبت مراجعه في نهاية الرواية) وبين التاريخ الداخلي لشخصيات متخيلة أو مخترعة، ولكنها انكتبت وتوثقت بطريقة مفعمة بالحياة، مما جعلنا نصدقها ونتفاعل معها لكي نرى من خلالها بشاعة الخلفيات التي قادتهم إلى هذا المصير.. سنة بعد أخرى سينتقل حنا يعقوب من القطاف في البساتين الى ترميم حامية تركية في بلغراد حيث يعدهم الباشا الجديد، المتعاطف مع الدروز، إذا أخلصوا بالخدمة، بتقصير مدة النفي من عشر إلى أربع سنوات، على أن يخدموا سنة الزامية في فرقة الهندسة للجيش العثماني لصيانة الطريق الرومانية التي تربط صوفيا باسطنبول، ولكنهم يخرجون من بلغراد بعد سقوطها لتبدأ رحلة عذاب جديدة تنتهي بهم إلى محبس آخر في الهرسك. ومن هناك سيكتسبون الإسم الذي تسمت به الرواية وهو (دروز بلغراد).
محبس بعد آخر.. وعبودية تلو أخرى.. صوفيا بعد الهرسك وبلغراد. وفي بريشتينا كادت أن تقطع يد حنا من أجل بيضة سرقها بسبب الجوع، وذلك بأمر من الباشا الذي كانت الجارية تطعمه حلوى القطايف أثناء نطقه بحكم الحبس لعدة سنوات على حنا… محنة أمر من أخرى في بلاد البلقان، وتفاصيل مجزية في مرارتها تحفر في الروح بشاعة الانسان عندما يتخلى عن انسانيته وينحاز إلى ولاءات القومية والطائفة. ولكن الأرواح المحطمة التي أقحمت بهذه المسالك الوعرة، تآخت في الجب ومسح عنها العذاب الشديد هذه النزعات والإختلافات.
وما من غاية للجميع بعد هذه الرحلة الشاقة سوى رؤية البحر، ومن بعده الجبل الذي انتزعوا منه بالبطش والقوة. سنوات من الظلم والقهر يحكمها باشاوات متخمون غلاظ القلوب يتحول خلالها حنا يعقوب من مسيحي الى درزي ومن درزي الى مسلم يلتحق، من أجل خلاصه، بقافلة حج يدله عليها راعي غنم صغير السن معتقداً إن هذا الشيخ المتهالك التائه في ذلك المكان البارد، هو درويش يريد الذهاب الى مكة حافي القدمين من أجل ثواب أعظم.. ستعوض لمسة دفء انساني للراعي الصغير بعض عذابه وتشفيه من الألم.. وستحيطه قافلة الحجاج المسلمين بكل الرعاية والحنان لحين وصوله الى الشام وانتهائه على مرمى حجر من مدينته بيروت وزوجته الحبيبة هيلانة.
لغة الروائي ربيع جابر سينمائية ثلاثية الأبعاد تهرول بنا بسرعة إلى أمام.. كأنها تسابق القارئ بسيل من الهجمات وتقوده على الدوام.. مقتصدة بكلماتها.. مقصودة بإيجازها.. حسية بمفرداتها.. متدفقة بعواطفها.. والأهم من ذلك كله وعرة في تشعباتها خارج وداخل جدران الحبس.. لكي تقدم لنا، في النهاية، رواية متميزة غزيرة التجارب والمعارف والأحاسيس.
يذكر أن رواية "دروز بلغراد- حكاية حنا يعقوب" صدرت في طبعتها الرابعة عن دار التنوير للطباعة والنشر والتوزيع- 2012.
ميدل ايست أونلاين