حكاية صاحب المرايا مع السيد وخدمه (علاء الاسواني)

 

 
علاء الاسواني

حدث ذلك في بيت المرايا الموجود في مدينة الملاهي، الناس يذهبون هناك مع أصدقائهم وأقاربهم ويتطلعون الى أنفسهم في المرايا فيجدون أشكالهم غريبة معوجة، عندئذ يضحكون ويتبادلون التعليقات الساخرة وفي النهاية ينصرفون وقد روحوا عن أنفسهم. ذات مساء دخل السيد فجأة الى بيت المرايا. كان معه ثمانية أشخاص: أربعة من الخدم واثنان من الطبّالين واثنان من الزمّارين. كان الخدم يحيطون بالسيد طوال الوقت ويندفعون أمامه اذا مشى ليفسحوا له الطريق، ويبدون دائماً وكأنهم متعلقون بتعبيرات وجهه ليلبوا كل ما يريده حتى قبل أن يطلبه، وكانوا يؤيدون بحماس كل ما يقوله ويتنافسون في إظهار انبهارهم بكل ما يفعله. بالإضافة للخدم، كان هناك رجلان يمسك كل واحد فيهما بطبلة، ورجلان آخران ينفخ كل واحد فيهما في مزمار. الطبل والزَّمر المستمر حول السيد، لم يكن له أدنى علاقة بالموسيقى، وإنما هو نوع من الضجة المقصود بها إضفاء الرهبة على السيد أو منعه من سماع ما يقوله الناس. ما أن دخل السيد وحاشيته الى بيت المرايا حتى انقطع الناس عن الضحك وراحوا يتطلعون اليه وقد بدا أنهم يحترمونه ويحبونه، حتى أن بعضهم صاحوا يحيونه بحرارة ولوح له آخرون بأيديهم فرد عليهم السيد بابتسامة، لكن الخدم أسرعوا وأحاطوا بالسيد حتى يمنعوا الناس من الاقتراب، منه بينما انطلق الطبل والزمر عالياً. هرع صاحب بيت المرايا وانحنى باحترام أمام السيد وقال:
ـ شرفتنا يا سيدي. أنا صاحب بيت المرايا وتحت أمرك.
ابتسم السيد وصافحه بود ثم مشى قليلا وخلفه الحاشية حتى وصل الى أول مرآة وتطلع الى نفسه فيها فوجد قامته قد طالت جداً بينما رأسه صغرت حتى صارت في حجم الليمونة. بان الانزعاج على وجه السيد وبادر أحد الخدم قائلا بحدة:
ـ هذه المرآة خربانة. أرجوك يا سيدي ابتعد عنها. لا أستطيع أن أرى صورة سيادتك بهذا الشكل.
هز السيد رأسه وابتعد عن المرآة ثم اقترب من المرآة الأخرى المجاورة ونظر فرأى نفسه قصيراً جداً لا تتعدى قامته متراً واحداً وعيناه جاحظتان بشكل غريب. صاح الخادم غاضباً:
ـ يا سيدي هذه المرآة ألعن من الأولى. ما هذه المرايا الخربانة؟
ابتسم صاحب المرايا وحاول أن يفسر الأمر لكن صوته ضاع وسط الطبل والزمر. مشى السيد ببطء الى حيث المرآة الثالثة على الحائط المقابل ونظر اليها فوجد نفسه بديناً جداً كأنه برميل، بينما وجهه منبعج الى اليمين ومبطط تماماً.. عندئذ هاج الخدم وماجوا وأعربوا عن استنكارهم بشكل استعراضي فصاح أحدهم: ـ لن أتحمل أبداً أن أرى السيد في هذه المرايا المنحطة.. والله لأحطنمها جميعاً.
ورد آخر:
ـ لازم نعرف من المسؤول عن هذه المهزلة.
وصاح ثالث:
ـ إنها ليست مهزلة وإنما مؤامرة يقوم بها عملاء من الطابور الخامس يلعبون لصالح الأعداء.
اشتد الطبل والزمر وانتظر صاحب المرايا حتى عاد الهدوء ثم اقترب من السيد وقال:
ـ آسف يا سيدي. أرجوك لا تنزعج من صورتك في هذه المرايا. انها لا تعكس حقيقتك وإنما تقدم صورة مبالغ فيها، فيرى الانسان فيها نفسه قصيراً أو طويلاً أو منبعجاً، لذلك يسمونها المرايا الضاحكة. الناس يأتون هنا لكي يطالعوا صورهم العجيبة فيضحكون ويتسلون، لكنهم يعلمون جيداً أن المرايا الضاحكة لا تعكس الحقيقة.
كاد السيد أن يقول شيئاً، لكنه سكت، لأن الطبل والزمر عادا من جديد، ثم اقترب خادم من صاحب المرايا متحفزاً وصاح:
ـ كيف تجرؤ على وضع هذه المرايا القذرة التي تقدم شكلا مشوها للسيد العظيم؟!
صاح خادم آخر:
ـ إسمع يأخ. أنت أحد احتمالين: إما طابور خامس أو خلية نائمة.
وصاح خادم ثالث:
ـ من يجرؤ على الإساءة لسيدنا لا بد أن يحاسب بشدة.
ابتسم صاحب بيت المرايا بحزن وقال:
ـ حاشى لله أن أحاول الإساءة الى السيد فأنا من المحبين له والمعجبين بشجاعته. لكن هكذا بيت المرايا في كل الدنيا. المرايا تغير من شكل الانسان بشكل مضحك. هذا يحدث في العالم كله ولم يعتبر أحد أن صورته في بيت المرايا تسيء اليه أبداً.
ظل السيد يتطلع الى صاحب المرايا وقد خلا وجهه من التعبير، وهتف خادم وهو يهرع خارجاً من الباب.
ـ هذا المكان المشبوه يجب أن يغلق فوراً. سأستدعي الشرطة.
عاد الطبل والزمر من جديد وصاح خادم:
ـ كل من يسيء لسيدنا سنقطع لسانه.
انحنى خادم آخر بإجلال أمام السيد وقال:
ـ سيدي إن الأمر جلل وخطير. الإساءة للناس العاديين مهما تكن ملابساتها تظل أمراً عادياً. أما سيادتك فالإساءة اليك إساءة الى الوطن بأكمله. سيادتك قائدنا ومعلمنا ورمزنا ومنقذنا ونحن جميعاً جنودك وأبناؤك، ثم إن هذه الإساءات الخسيسة ليست بالصدفة أبداً، لأنها تأتي في وقت يتربص فيه الأعداء بالوطن.
بدا القلق على وجه صاحب المرايا وقال:
ـ يا جماعة لماذا تصرون على تكبير الموضوع؟ المسألة بسيطة. هنا مكان للتسلية والضحك لا أكثر ولا أقل. لا توجد مؤامرة ولا يحزنون. والله العظيم أنا حتى لم أكن أعلم بزيارة السيد. ثم حتى اذا ظهرت صورة سيادته منبعجة في الإعلام فإن ذلك لن يسيء اليه إطلاقاً بل على العكس ستثبت هذه الصورة أن سيادته رجل بسيط متواضع يذهب الى بيت المرايا في الملاهي مثل بقية الناس العاديين.
هنا صاح خادم:
ـ يعنى أنت موافق على تصوير السيد بهذه الطريقة المسيئة؟ أنت فعلا طابور خامس.
والله وانكشفت يا حلو…
قال صاحب المرايا شيئاً لكن صوته ضاع مرة أخرى وسط الطبل والزمر ثم عاد الخادم ومعه رجال الشرطة. ثلاثة جنود وضابط بدا متحفزاً فاقترب من صاحب المرايا وقال:
ـ أرني ترخيص هذا المكان فوراً.
هرع صاحب المرايا الى مكتبه في أقصى القاعة وعاد بالترخيص الذي تفحصه ضابط الشرطة بعناية ووجده سليماً ففكر قليلا ثم سأل صاحب المرايا:
ـ كم طفاية حريق عندك في هذا المكان؟
رد صاحب المرايا بثقة:
ـ الحمد لله. عندي ست طفايات وكلها في حالة جيدة.
ابتسم الضابط وقال:
ـ القانون يفرض عليك أن يكون لديك أربع طفايات وليس ست.
ـ لقد أحضرت طفايتين إضافيتين احتياطي. أين الخطأ في ذلك؟
هز الشرطي رأسه وقال:
ـ لا يا حبيبي القانون قال أربع طفايات فقط وأنت اعترفت بأن لديك ست طفايات. خلاص. لازم نقفل المكان.
حاول صاحب المرايا أن يعترض ولكن عبثاً فقد أشار الضابط الى الجنود فبدأوا في اخراج الزبائن وأخيراً لوح بيده للسيد الذي توجه نحو باب الخروج وحوله الخدم والطبّالون والزمّارون. مشى صاحب المرايا بسرعة حتى اعترض طريق السيد ولم يأبه للخدم الذين حاولوا دفعه بعيداً فصاح بصوت مرتفع:
ـ أيها السيد. لا يصح أن يعتدى على حقي في حضرتك. هذا المكان قانوني ومرخص وهو مخصص للتسلية والدعابة. والشرطة تغلقه الآن بإيعاز من خدمك.
تطلع اليه السيد صامتاً فاستطرد صاحب المرايا قائلا بانفعال:
ـ لماذا لا ترد عليّ أيها السيد، أليس من حقي أن أسمع رأيك؟
مرة أخرى لاحق صاحب المرايا موكب السيد وصاح:
ـ أيها السيد أنا أحبك وأحترمك وأدعو الله أن يوفقك. إن صورتك عند الناس محترمة ولن يؤثر فيها الشكل الذي تعكسه المرايا الضاحكة لأن الناس جميعاً يعرفون أنها لا تعكس الحقيقة. بيت المرايا ليس خطراً عليك أيها السيد، لكن الخطر الحقيقي عليك سيأتي من الذين يحيطون بك ويحاولون إقناعك بأنك فريد عصرك وأوانك، وأن المؤامرات تحاك ضدك، وأن كل من يختلف معك عميل ومأجور. أحذرك من الخدم والطبّالين والزمّارين. إنهم لا يحبونك وإنما يحبون مصالحهم. إنهم ينافقونك تماماً مثلما نافقوا من سبقك وسوف ينافقون كل من يأتي بعدك.
يبدو أن السيد سمعه هذه المرة لأنه تطلع اليه بتعاطف، ولكن كالعادة اشتد الطبل والزمر، وهرع الخدم كأنما يحثون السيد على الابتعاد فابتعد. ظل صاحب المرايا واقفاً في الشارع بينما تقدم منه الضابط وقال بنبرة حاسمة:
ـ إسمع يا أخ. بيت المرايا خالف شروط الترخيص فكان لا بد من إغلاقه حرصاً على أرواح الناس. أرجو أن تكون متأكداً أن السيد لا علاقة له من قريب أو بعيد بإغلاق بيت المرايا. أحذرك من «الشوشرة» أو البلبلة لأننا سنقابل ذلك بحزم لا تتخيله. أنت تعرف كما يعرف الجميع أن السيد أكبر نصير للحرية وهو لا يسمح أبداً بمنع أي انسان من التعبير.
الديموقراطية هي الحل

صحيفة السفير اللبنانية

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى