حلب.. الثّابت والمتحوّل
في العام 1997، كنتُ أشرف على فيلم وثائقيّ طويل عن مدينة حلب (ضمن سلسلة مدن عربيّة). وخلال المرحلة الأولى؛ مرحلة البحث العلمي التوثيقيّ، توقَّفت طويلاً عند كمِّ المرات التي دُمِّرت فيها هذه المدينة الألفية وأُحرقت، كما لم أجد في تاريخ أيّ مدينة عربية أخرى.
وعندما انتقلنا إلى التصوير، وقفنا طويلاً أمام إبداعات حضارية فريدة داخل متحف حلب، تبدأ من الألفية الثالثة قبل الميلاد، وتعبر جميع مراحل التاريخ البشري. كما توقَّفنا أمام الخريطة المثبتة على أرض قاعة المدخل، وهي تمثل سوريا الطبيعية كلّها، وكأنما أُريد لها أن تقول إنَّ هذه المدينة هي ثغر هذه الجغرافيا، كما رآها المتنبي وسيف الدولة.
في المونتاج، كانت أمامنا لقطات طويلة لحائك عجوز يتناغم مع نوله في خان الشونة التراثي. قررت أن تُقطع لقطات هذا الحائك، لتحكي سيميائياً تاريخ حلب، بمراحلها: مرة يبتسم ويسرع، وتنهض المدينة، مرة يشيح بوجهه ويغمض عينيه، يغزو عدوّ المدينة ويحرقها ويدمّرها، مرة يغمض عينيه ويتباطأ، فتتباطأ دورتها، وتعود قدماه ويداه ووجهه إلى النشاط والحيوية والابتسامة.
في سجلّ شهادات المواطنين، قالت لي سيّدة حلبية: “حلب في الشّمال وقلعتها عالية. لا تستطيع أن تنظر إليها على الخريطة إلا إذا رفعت رأسك إلى فوق”. لم أجد أبلغ من هذه العبارة لاختتام الفيلم.
حلب ثابت جغراتاريخي ومتحوّل استراتيجي. هو قدر الجغرافيا التي لا يشكّل التاريخ إلا سجلّ علاقتها بالإنسان. هو قدر مدن الثغور، الذي يجعلها تتحمَّل دائماً ضريبة مواجهة الوطن للطامعين فيه، فتكون أول من يحتلّ وآخر من يحرّر، أكثر من يدمّر وأكثر من يستجيب لحيوية العودة إلى الحياة الحضارية.
وبذلك، يكون المتحوّل الاستراتيجي الأهم في تحرير محافظة حلب هو إعلان فشل المرحلة العسكرية من المشروع الأميركي– الإسرائيلي- التركي- التكفيري على أرض سوريا.
وإذا كان هذا التحرير يحمل معاني الانتصار على “التفكّك والحقد والخيانة”، كما قال الرئيس السوري بشار الأسد، فإنَّ أهمّ ما قاله أيضاً هو إنَّ الحرب لم تنتهِ بعد، ففضلاً عما تبقى من حسم عسكريّ، ستدخل الحرب مرحلة جديدة أكثر خطورة، نجد ملامحها بوضوح في استراتيجيات حروب الجيل الرابع وآلياتها، كما أسَّس لها وليام ليند في العام 1989، وحروب الجيل الخامس، كما أعلنها في العام 2017 الجنرال وليام ستيوارت، رئيس أهم أجهزة الاستخبارات الأميركية في مجال التجسّس البشري، في ما يعتبر تطويراً للحرب النفسية، بما تقدّمه التطورات التكنولوجية للعصر الحديث، علماً بأنَّ جوهر مادة الصراع سيظلّ هو هو. حرب ثقافية، دينية، إعلامية، اقتصادية، ومعلوماتية.
وإذا كانت أولى سمات حروب الجيل الرابع أنها حرب غير متماثلة (assymetric)، بمعنى أنها بين جيش نظامي وجماعات غير نظامية مرتبطة بدول، فإنَّ حروب الجيل الخامس هي حرب مجتمع المعلومات، كما قال ستيوارت.
وفي هذا السياق، سيظلّ أمام التركي- العثماني، كما أمام الإسرائيليّ، أن يغذّي العصبيات الدينية حدّ الكراهية والدم والعداء، وحدّ غياب أيّ مفهوم للهوية الوطنية خارج هذه العصبيات، لأنَّ من يفتقد مشروعية وطنية حقوقية لاغتصابه، سيستعيض عنها بمدّ ديني أسطوري تاريخي يجعل له مشروعية.
وعليه، فإنّ العصبية السنّية الإخوانية هي الوسيلة الوحيدة لتمدّد الهيمنة الإردوغانية، بمعنى النفوذ الدينيّ، تمهيداً لضمّ مزيد من الأراضي العربية في سوريا وليبيا والخليج. وفي هذا جوهر صراع “العثمنة” مع المشروع القوميّ في المنطقة العربية من جهة، ومع علمانية أتاتورك من جهة أخرى، حيث نُقض شعاره “سلام في الوطن سلام في العالم”.
لذا، تعمل العثمانية الجديدة على محو صورة أتاتورك التاريخية، و”تحويل الجمهورية إلى مجرد إعلان”، كما قال أحد الكتّاب الأتراك، الذي أضاف “أن كلّ ما يقوله إردوغان ويفعله، ومنه انتقاده اتفاقية “مونترو” حول المضائق في العام 1936، بل وتلميحه إلى تغيير النشيد الوطني، وهجومه على مؤلّفه محمد عاكف إرصوي، هو مجرد إقامة البنية التحتية لرؤية تركيا الجديدة التي يريد أن يحتفل بها في العام 2023″.
ما يعنينا في هذا الصراع أنّه يتجاوز بعده التركي إلى التسلّل إلى كلّ مجتمعاتنا العربيّة (بل وكلّ خريطة السلطنة القديمة). وهنا تتوجَّب المواجهة على خطّين: الأول ديني- ثقافي، ببناء ورعاية خطاب ديني مختلف، يعيد الإسلام إلى جذوره الأصيلة ما قبل العثمنة، ويفتحه على آفاقه الجديدة المواكبة للعصر.
ولعلَّ هذه الساحة هي أصعب ساحات البناء، وخصوصاً بعد كل ما خلّفته المنظّمات التكفيرية والوهّابية والإخوانية من ظلامية وتخلّف. ويخطئ من يظنّ أنَّ بإمكاننا أن نواجهها بسلاحها، إنما علينا أن ننجح بإسلام حديث منفتح حضاري، مندرج في سياق المواطنة كانتماء أعلى وجامع.
وتحت هذا السقف أيضاً، تندرج التربية الدينية لمختلف الأديان والطوائف والمذاهب، على أن تلتزم كلها إطار فصل الدين عن الدولة، والمساواة في المواطنة، والابتعاد عن أي سلوكية أو قوننة لأي شكل من أشكال المحاصصة (ولكم في لبنان عبرة يا أولي الألباب).
المدخل التركي الثاني للهيمنة هو المدخل العرقي- الإثني. وقد رأينا أنَّ الحزب التركماني كان أشد المقاتلين شراسة في حلب وإدلب، إضافةً إلى المقاتلين الأجانب، (ولعلَّ الكثيرين لا يعرفون أأن الإيغور – مثلاً – الَّذين يحلو للإعلام الببغائي أو المأجور أن يجعلهم مادة لاضطهاد المسلمين في الصين، لا يشكّلون سوى واحدة من 11 إثنية مسلمة في الصين، تعيش كلّها بأمان وسلام، إلا هؤلاء، لأنهم تركمان، وتحركهم تركيا بإيعاز أطلسي ضد الصين).
هكذا، علينا الانتباه إلى وجود الإثنيات والأعراق المختلفة التي تمتلك أيضاً خصوصيّة دينية في سوريا، من مثل الآشوريين والسريان – السوريين الأصليين – والذين عانوا من مجازر العثمنة ربما أكثر مما عانى الأرمن، أولاً، لأنَّ هذا حقّ مواطنة، وثانياً كي لا نترك للأطلسي- عبر الغرب هذه المرة- أن يستغلّهم.
ولم ينقطع حبل المشيمة الأطلسي مع تركيا، فقد شهدنا النظام التركي ينادي طالباً مساعدةَ الأطلسي، وهو يتوغَّل أكثر في الأراضي السورية، في الوقت الذي يطالب وزير خارجيته بوقف ما يسمّيه بوقاحة “هجمات النظام السوري في إدلب”… و”وقف دائم لإطلاق النار لا يتمّ انتهاكه”.
ورأينا الموفد الأميركيّ ينعى قتلى الجيش التركي المعتدي على الأراضي السوريّة بعبارة “شهداؤنا”، من دون أن يمنع ذلك أنَّ أولوية الولايات المتحدة الأميركية الآن هي الصين، وحتى الوجود الأميركيّ المحدود في شمال شرق سوريا، فما هو إلا لقطع طريق الحرير.
كذلك، رأينا الجهات الأوروبيّة الأطلسية تجنّد حملاتها باستماتة لوقف إطلاق النار في إدلب بعد انتصار حلب، وهي إذ تفعل ذلك تحت الغطاء الإنساني- كعادتها – لكنها ترقص على إيقاع الرعب من تدفّق اللاجئين، وعودة إرهابييها إليها، وإيقاع الشركات واللوبي اليهودي.
الميادين نت