حين يلفظ الشاعر آخر كلمه!
حين يلفظ الشاعر آخر كلمه!
*التراجيديا هي فناء شخص يكون صالحاً للحياة.
*الكوميديا هي بقاء شخص لم يعد صالحاً للحياة.
* ماركس*
الشعراء يموتون موتاً أقرب إلى الفجيعة، لأنهم لا يموتون على يد عزرائيل الحنونة ذات المنجل المسنون، في الرسوم المتخيلة.
بعضهم في غرفة فندق مكتوب على بابها: يرجى عدم الإزعاج، كالشاعر الفلسطيني معين بسيسو. وبعضهم بانفجار شريان كلغم في الصدر المحتقن بكل آلام المنافي ، كمحمود درويش ، وبعضهم في الغربة كنزار قباني، وشاكر مصطفى، والجواهري، وعبد الباسط الصوفي.
ثمة من ينتحر، ثمة من يقتل في مباراة قروسطية… ومن يعدم في حروب أهلية… والأمثلة بلا حصر!
الشاعر السوفييتي المشهور رسول حمزاتوف رأى رأي العين مصيره في الموت الخاص به.
كان حمزاتوف أحد سكان هذه البلاد الشاسعة “الاتحاد السوفييتي” وهو من أصغر قرية في جبال القفقاس. ولغته لا يتكلمها أكثر من مليون شخص. ومع ذلك كان يطبع عشرين مليون نسخة من كل ديوان شعر. وقرا أشعاره في معظم بلدان العالم. وكان صديقاً لعصره وكبار رجالات عصره… من بابلو نيرودا إلى بابلو بيكاسو.
مئات ملايين البشر تحفظ أشعاره. ملايين الناس تسمعه وتريد توقيعه. لا أحد في الاتحاد السوفييتي لم يحلم بأن يصافحه أو يشرب معه كأس فودكا. وهو رجل في غاية البساطة وخفة الدم، وقد كتب كتباً ساحرة بالفعل. منها تجربته في الحياة بعنوان “داغستان بلدي” وهو كتاب قرأه مئات الملايين. وأعتقد أنه كان واحداً من أهم الكتب التي تمجّد انتماء الإنسان إلى أصغر الهويات الصغرى (قريته، وشركسيته) وإلى أكبر الهويات الكبرى (الأممية والشيوعية)، وكيف يكون الإنسان بين الهويتين ممجّداً أيضاً بوصفه الفرد المفرد الخصوصي الهوية النفسية!
جاء اليوم الذي انهار فيه الاتحاد السوفييتي، بعد 70 عاماً من اشتراكية (عممت نمط المعيشة الموحد)، وأممية( كرّست عزلة البشر عن محيطها)، وشـيوعية (ألغت الحرية) ، فتمزق البلد الموحد بالقوة إلى بلدان مجزأة بالاحتضار وبالاختيار . وفي لحظة الهجوم على مقر اللجنة المركزية للحزب الشيوعي السوفييتي لم يدافع عن المقر حزبي واحد، من أصل ستة ملايين عضو في موسكو وحدها . وفيما بعد احتل المتذمرون من الماضي أهم شارع في موسكو.
وابتدأت ولم تنته حملة التصفية العنيدة والفجة لكل الإرث الثقافي والأدبي السوفييتي. وطالت الحملة الجميع… ومن بينهم رسول حمزاتوف.
كان رسول في أواسط السبعينات من عمره. دخل منزله ولم يخرج بعدها إلى أي مكان خوفاً من الممحاة المعلقة برجل مكنسة للماضي. لم يعد أي أحد يرى كتاباً له في مكتبة. لم يذكره راديو او تلفزيون. ولم يعد هنالك أصدقاء . بعضهم مات . بعضهم لم يعد يتعرف على الطريق في الحياة الجديدة. وآخرون فقدوا اهتمامهم بما لم يعد من عصرهم!
في مثل هذه العزلة، وفي غبار تصاعد من انهيار النظام القديم تأمل حمزاتوف ما لم يعد هو منه، أو فيه، فلخص المأساة… مأساة الخيارات في هذين السطرين:
” كل ما أطلبه من الرب، إن كان هناك مكانان فقط ، أحدهما للجنة ، وآخر للجحيم، أن يجد لي مكاناً صغيرا… بينهما!”