‘خاتون بغداد’ .. حبكة تدور حول الاستعمارين البريطاني والأميركي للعراق
يتزامن صدور “خاتون بغداد” الرواية التاسعة في قائمة الأعمال الروائية للكاتب العراقي المقيم في دبي شاكر نوري، مع مرور 100 عام على الاحتلال البريطاني للعراق في 1917. وتتمحور حول شخصية غيرترود بيل، المثيرة للجدل، التي دخلت العراق مع القوات البريطانية باعتيارها مسكتشفة آثار، ثم أصبحت السكرتيرة الشرقية للمندوب السامي في بغداد آنذاك بيرسي كوكس، والتي توفيت في عام 1926 ودفنت في مقبرة البريطانية في الباب الشرقي.
تتضمن رواية “خاتون بغداد” على قدر كبير من الخيال، الممزوج بروح نابضة عاشت التاريخ بكل تفاصيله. رواية ذات طَعم خاص اعتمدت على الوثائق ولكنها ليست وثائقية، ولا تؤرخ بقدر ما ترصد الصراع المليء بالعواطف والأحاسيس لأُسطورة حية وامرأة إشكالية هي مِس غيرترود بيل التي عاشت وماتت في بغداد.
وتعتمد الرواية في تقنيّتها على شخصيات مهووسة بهذه المرأة التي صنعت الملوك في الشرق ووطدت علاقتها السياسية مع كبار القادةِ والسياسيين أمثال السير بيرسي كوكِسْ وهنري دوبسْ والمستر جون فيلبي وتشرشل ولورنس العَرب.
وقد نجح المؤلف، في روايته الصادرة عن دار نشر “سطور للنشر والطباعة والتوزيع” في بغداد، في الخروجِ عن سكَّةِ السرد التاريخي الرتيب، وقدم لنا حَبكة متقنة تَدور حول الاستعمارين البريطاني والأميركي للعِراق عبرَ شخصيَّةِ مِسْ بيل في “خاتونْ بَغداد” وست شخصيات أُخرى افتُتِنوا بها وبَحثوا عنها كما بحثتْ شخصياتُ بيرانديللو عن مُؤلِّف هُم: يُونس كاتبُ سيناريو، ونُعمان كاتبُ سيناريو، وهاشِم مُشغِّلُ آلةِ عَرْضٍ في سينما غرناطة، ومُنصور حارسُ مَقبرةِ الخاتون وأبو سُقراط فَيلسوفُ بَغداد وفيرناندو المُحقِّقُ الأُمَميُّ في احتراقِ مَكتبةِ بَغداد داروُا في فلكِها.
أوَّلُ روايةٍ في العالَم، تُكتبُ عن مُؤسسة المَملكةِ العِراقيَّة والدستورِ العِراقي والمُتحفِ العِراقي والمَكتبة الوطنيَّة، إذْ لم يُكتبْ عنها سوى كتاباتٍ نقديَّة وتاريخيَّة، ولم تحظَ سابقًا برِوايةٍ أو عملٍ أدَبي أو فنّي حولَها عدا الفيلم الهوليودي “ملكةُ الصَّحراء” للمُخرج الألْماني وارنَر هيرزوغ.
“خاتونْ بغداد” رواية رائدة تعيدُ الاعتبارَ لهذه الشخصيَّة الفذَّة التي ألَّفتْ عن العراق 16 كتابًا وأصبحَتْ جزءًا مِنْ تاريخِ العِراق المُعاصر، من خلالِ المَزجِ بين التاريخ والعاطفةِ والخيال والسيرة، وكلَّ ذلك في بوتقةٍ واحدة تتجانس فيها عناصر السرد والمَسرح والسينما والسيناريو والمُراسلات بمَهارة وخفة وجاذبية قل نظيرها.
يمزج المؤلف بين سيرتها وحكايتها وبين التاريخ، ولكنها ليست رواية تاريخية بقدر ما هي رواية تخييل تاريخي يمد الجسور بين الماضي والحاضر والمستقبل لذلك فهي لا تنتهي في سنة وفاتها بل تستمر تأثيراتها حتى الاحتلال الأميركي للعراق وما بعد هذا التاريخ إلى الوقت الحالي.
استطاع الروائي شاكر نوري أن يحكي لنا قصة هذه المرأة بعيدًا عن كتب التاريخ، لأنه يصوغ لها حياة أخرى، والأوجه الخفيّة منها، وكل ذلك اعتمد فيه على الخيال الروائي، ونجح في نحت أيقونتها، مسعرضًا مئة عام من حياة المجتمع العراقي. كما تمكن من سبر عوالمها الداخلية، وحالاتها النفسية المتقلبة، وقلقها من المحيطين بها، وهي تفكر بتأسيس مملكتها على أرض الرافدين، ألا وهي المملكة العراقية التي ضاعت من أيدي خاتون بغداد.
شاكر نوري يؤرشف تاريخ هذه المرأة بطريقته الخاصة في خلق شخصية مركزية تدور حولها الشخصيات الأخرى عبر سرد مشوّق، فيه الكثير من الخيال الروائي.
ولكي نكشف عن هذا الخيال الروائي، أجرينا هذا الحوار مع المؤلف الذي أكد أن فكرة الكتابة عن شخصية تاريخية عاشت بدمها ولحمها فترة من تاريخنا، ليست بالمهمة السهلة، لأنها تنطوي على فكرة ملامستنا لهذا التاريخ، ورؤيته كما نشاء، نحن الروائيون، لأن هذا الأمر يحتّم علينا ليس فحص التاريخ بل الإسهام بالكشف عن خباياه، وكما تعلم، إن هذا التاريخ لم يكتبه سوى المنتصرين في الحروب.
لكن مهمة الروائي هنا، هو استخدام هذا التاريخ مثل مِصباحٍ كَشّافٍ يدورُ حولَ الوُجودِ الإنسانِي ويُلقي ضياءَهُ عليه، وعلى إمكاناتِه غيرِ المُتوَقَّعة التي لا تَتحقَّقُ وتظَلُّ غيرَ مَرئيَّةٍ ومَجهُولةٍ في الفتراتِ الرَّاكدَة، عندما يَكونُ التاريخُ ساكنًا كما يقول ميلان كونديرا. لذا قلت يجب أن نحرّك التاريخ عندما يكون ساكنًا.
ورأى شاكر نوري أن اهتمامه بجانب السيرة الذاتية والسيرة الوثائقية في شخصية الخاتون مرده إلى أنه في مثل هذه الأعمال، لا يمكن كتابة رواية خيالية مئة بالمئة، لأن الواقع يفرض نفسه علينا، وعلى الروائي أن يختار من السيرة ما يشاء، لذا اعتمدتْ على الوثائِق ولكنَّ الرواية ليستْ وثائقيَّة، ولا تُؤرِّخُ بقدرٍ ما ترصُدُ الصِّراعَ المَليء بالعَواطف والأحَاسيس لأُسطورةٍ حية وامرأةٍ إشكالية.
وتعتمدُ الرّواية في تِقنيَّتِها على شخصيَّاتٍ مَهوُوسةٍ بهذه المرأة التي صنعتْ المُلوك في الشَّرق: الملكُ فَيصل الأوَّل، والملكُ سُعود بنْ عَبدالعزيز، ومن خلال علاقتَها السياسيَّة مع كِبار القادةِ والسياسيّين أمثالَّ السير بيرسي كوكِسْ وهنري دوبسْ والمِستر جون فيلبي وتشِرشِل ولورَنسْ العَرب.
وحول ما إذا كان خرج عن سكَّة السرد التاريخي، قال “بطبيعة الحال، لجأت إلى استحضار حَبكةً تَدورُ حولَ الاستعمارَيْن البريطانِي والأميركِي للعِراق عبرَ شخصيَّةِ مِسْ بيل. وكذلك استحضار حياتها الحميمة، التي لا يمكن أن تنفصل عن آمالها وطموحاتها بصناعة بلد حضاري أو بالأحرى إعادة أمجاد هذا البلد، فهي كانت مهوسة بهذه الفكرة، وعملت المستحيل لكي تحقق ذلك”.
أما بالنسبة للست شخصيات التي دخلت الرواية، وهي شخصيات استثنائية سواء بطريقة تفكيرها أم بهوسها أو برؤيتها لهذه الشخصية، هل ذلك جزء من فكرة الخروج عن السرد الترايخي، فأوضح شاكر نوري أنه من خلال طرح هذه الشخصيات الاستثنائية، وهي: يُونس كاتب سيناريو، ونُعمان كاتبُ سيناريو، وهاشِم مُشغِّلُ آلةِ عَرْضٍ في سينما غرناطة، ومُنصور حارسُ مَقبرةِ الخاتون وأبو سُقراط فَيلسوفُ بَغداد وفيرناندو المُحقِّقُ الأُمَميُّ في احتراقِ مَكتبةِ بَغداد. هؤلاء داروا في فلك الخاتون، وقد اخترتهم لكي يطيلوا من أمد الرواية لأن مس بيل تتوفى في 1926، وكان يمكن أن تنتهي بها أحداث الرواية، لكنها استمرت في وجدان هذه الشخصيات إلى الوقت الحاضر، وهم يستحضرون الاحتلال الأميركي. حاولت أن أجعلهم مثل شخصيات بيرانديللو التي تبحث عن مُؤلِّف.
وكشف أن هناك شخصيتين واقعيتين حقيقيتين من بين هذه الشخصيات الست، هما: شخصية أبو سقراط، التي استوحيتها من شخصية الصديق الكاتب العراقي الراحل خضير ميري، والثانية شخصية فيرناندو فرناندو باييز مدير المكتبة الفنزويلية الوطنية وخبير الكتب العالمي الذي زار بغداد في عام 2003 من قبل الأمم المتحدة. والشخصيات الأربع أخرى يمكن أن تكون واقعية، كاتب السيناريو، والمخرج السينمائي، ومشغل سينما غرناطة، وحارس المقبرة البريطانية. إنها شخصيات حقيقية نابضة بالحياة، يمكن العثور عليها في مقاهي بغداد وأزقتها وحاناتها.
خصص شاكر نوري الفصل السادس لهذه الشخصيات، ولم يضع التنقيط للجمل والعبارات فيه، وقد أوضح لجوءه لذلك “إن كلامهم عن الخاتون في الحانة، وكما تعلم أن بغداد مشهورة بحاناتها، لم يكن سوى نوع من الهذيان المحموم، بلا رابط عقلاني، وهذا الهذيان لا يمكن أن ينتظم في جمل منتظمة وعبارات صقيلة، فالهذيان نوع من المونولوج، ما أن ينتهي أحد تلك الشخصيات حتى تتداخل كلمات الشخصيات الأخرى، ومدار حديثهم هو مس بيل، التي شغفوا بها إلى حد أنها كانت تأتي في كلامهم وحتى في صمتهم، وحتى عندما يذهبون إلى صالة السينما لكي يروا فيلما عنها”.
وحول كونه قصد فيلم “ملكةُ الصَّحراء” للمُخرج الألْماني وارنَر هيرزوغ، قال “أجل، لكنهم لم يستأنسوا بهذا الفيلم لأن المخرج أقتطع عشرة أعوام من حياتها في العراق، وهي السنوات الأكثر خصوبة وانتاجًا في حياة المس بيل، لأن أفق المخرج أقتصر على رؤيتها كبطلة هوليودية بحتة، وصوّر مغامراتها الصحراوية.
وقد عزفت هولويود سنوات طويلة عن عمل فيلم عنها اعتقادًا منهم بأن حياتها خالية من الحب، بينما هي وقعت في حب رجلين اثنين، خصصت لهما فصلاً كاملاً، وهما هنري كادوغان، الموظف في القنصلية الانجليزية في طهران، الذي أغراها بقراءة أشعار حافظ الشيرازي. وكذلك قصة حبها مع الميجور ريتشارد داوتي وايلي، نجم الحرب آنذاك. ولكنها أخفقت في هذين الحبين. لذلك قررت الرحيل إلى الشرق”.
وعلل شاكر نوري اختياره لشخصية مس غيرترود بيل لتلقي الضوء على مئة عام من تاريخ المجتمع العراقي، مؤكدا أنه ما كان له أن يطرح هذه الشخصية ويختارها لولا ما تتمتع به من مزايا تفرض نفسها عليه كبطلة، وليس كجاسوسة، كما يراها الآخرون.
وقال “هي إن جمعت بين مهنتها كسكرتيرة شرقية للمندوب السامي بيرسي كوكس، لكنها شخصية مثقفة ساهمت في صياغة العراق الحديث إن لم يكن هي اللاعبة الوحيدة. إنها عرفت إن الحكم الملكي الذي أسسه ما كان له أن يستمر لولا فهم العشائر والقبائل العربية التي يتكون منها المجتمع العراقي آنذاك. هناك قصة حب بين مس بيل وبغداد، التي تُرجمت من خلال علاقتها الحميمة بهذه الأرض. إنها أيضًا مُؤسَّسةِ المَملكةِ العِراقيَّة والدُّستورِ العِراقي والمُتحفِ العِراقي والمَكتبة الوطنيَّة”.
“خاتونْ بغداد” روايةٌ رائدةٌ تعيدُ الاعتبارَ لهذه الشخصيَّة الفذَّة التي ألَّفتْ عن العراق 16 كتابًا وأصبحَتْ جزءًا مِنْ تاريخِ العِراق المُعاصر.
وأشار إلى أنه في أقل الأحوال قدم صورة جديدة لشخصية الخاتون، “إنني غيرت الصورة النمطية التي رسمها عنها الآخرون، وذلك من خلال عبقرية الرواية التي تعمل على المَزجِ بين التاريخ والعاطفةِ والخَيال والسِّيرة، وكلَّ ذلك في بوتقةٍ واحدةٍ تتَجانسُ فيها عناصرُ السَّردِ والمَسرحُ والسينما والسيناريو والمُراسلاتُ”.
يذكر أن شاكر نوري مِنْ مدينةِ مولدِه جَلّولاء- دِيالى. قصدَ مدينةَ أبيِه بَغداد ليَدرسَ في جامعتِها، وينالَ شهادةَ البَكالوريوسْ في الأدبِ الإنجليزيّ في 1972. بعد ذلك، عادَ إلى مدينتِه، ليَعملَ أستاذًا للُّغة الإنجليزية في الثانويَّة لمُدَّة أربعِ سَنوات، ثم قرَّرَ الهِجرةَ إلى باريس في 1977 التي مكثَ فيها حتى 2004 حيثُ حصلَ على درجةِ الماجستير في الإعلام مِن المَدرسةِ العُليا للدِّراسات، والدُّكتوراه في السينما والمسرح من جامعة السوربون في 1983. عملَ مُراسلاً ثقافيًا لعدَدٍ من الصُّحفِ والمَجّلاتِ العِراقية والعِربية وعملَ في إذاعةِ مونتِ كارلو وجامعة السوربون. يعملُ حاليًا في الصَّحافةِ والإعلام والتدريس الجامعي في دُبيْ. نالَ جائزةَ ابن بطوطة لأدَبِ الرٍّحلات عن كتابٍه “بطاقةُ إقامةٍ في بُرجِ بابِل. يَوميَّات باريس” 2013.
ميدل ايست أونلاين