خالد الفيصل ومصباح العروبة الجديدة
منذ القدم، وبعدما أسهمنا، عرباً، في تنويرها ورفدها بطرائق الحضارة والعمران، سارت الشعوب من حولنا، وفي أغلب مناطق العالَم مركزيّةً (وخصوصاً في المراحل الأخيرة من تقدّم الإنسانية)، من التجزّؤ إلى التكتّل الاقتصادي، ومنه إلى التوحّد السياسي ببعدَيْه التكتي والاستراتيجي. أمّا نحن العرب، فقد أبدعنا، ومنذ عقود حديثة طويلة، السير في الاتّجاه المُعاكِس..
.. صار دأبنا التفكّك والتشظّي والتذرّر، على الرّغم من كلّ ما لدينا من دواعي القوّة والمنعة والتجذّر، تأريخاً وثقافةً ولغةً وعاداتٍ وتقاليد وهويةً جامعة، فضلاً عن احتياطيّ الثروات المادّية، وطبيعة الموقع الجغرافي الاستراتيجي، ووفرة الطّاقات البشرية المُبدِعة في كلّ شيء.
على ما يبدو، بات التخاذل فينا تقليداً راسخاً، مستمرّاً، لا تزعزعه التجارب ولا تقوى عليه عِبر الزمان.
فكلّ يوم يُهان إنساننا، ونفقد الشعور بكرامة أوطاننا ومجتمعاتنا، حتّى بات الواحد منّا يفترسه ضعفه، ويُغلّفه خموله، ويتكوّر فيه جبنه وتردّده، وهو إلى الموت المادّي والمعنوي أقرب، يسير متقلقل الخطى، مستنفد الشعور في قلب فوضاه وعماه، إلى حيث يلوي ولا يلوي على شيء.
يأتي الآخر القويّ (مباشرة أو بالوكالة.. لا فرق) يعبث بنا وبتاريخنا، وإرث معتقداتنا وأعرافنا واقتصاداتنا، ويُبدّد هويّتنا ويهدم مقدّساتنا وما تبقّى من أوابدنا، ولا نجرؤ حتّى على رفع سؤالٍ استنكاري في وجهه.
أيّ غشاء هذا الذي أُسدل على بصيرتنا عرباً؟ أيّ تسلّط مقيم بات يُحتّم علينا كتمان حقائق عجزنا، حتّى عن أنفسنا؟!
نعم، إنّه لمن أدهش المدهشات أن نحيا، عرباً، حياة مُذلّة، طارِدة، مكروهة، حتّى من أعدائنا.. فكيف بأنفسنا، ومن ثمّ، طبعاً، من كلّ أولئك الذين يتظاهرون بأنّهم معنا، أو في صفّنا، فإذا بنا وقد أصبناهم جميعاً، بما لا يملكون معه فكاكاً من السخرية، بل والازدراء بنا؟! فأنّى ذهبت في هذا العالَم، شمالاً وجنوباً، شرقاً وغرباً، فأنتَ كعربيّ يحكمك نقصانٌ ما، يُباشرك به الآخرون، حتّى ولو لم يتمّ النطق به، أو التأشير إليه من طرفهم. تقرأ هذا النقص في عيونهم وطُرق تعاملاتهم ومقارناتهم بينك وبين الآخر غير العربي القادِم إليهم، على مختلف سُبل التعامل والمستويات كافّة.. من سائق التاكسي إلى أكبر مسؤول يحدث أن تصادفه أو تقابله في مجال عملك الإعلامي أو الثقافي أو السياسي أو الاقتصادي والمالي..إلخ.
حركة القياس النفساني في علم النفس، قامت في الأصل لتوفِّر للإنسان الفرد الحُكم الموضوعي على نفسه. وكلّ يوم يقوم العاقل منّا بحركة القياس هذه، مُستنتِجاً، وفي العمق، أنّ إنساننا العربي، بات لا يرى إلّا حطامه، راهناً وربّما في المستقبل غير المنظور أيضاً.. بات هكذا نفساً راحلة دونما جذور، تتغوّل عليه حتّى أمراضه وأوهامه الكئيبة الشاحبة. نعم، جَمُدَ العقل منّا، ووهن القلب، وخَفَت الضمير وغاضت الروح، ومن السيّئ إلى الأسوأ، فالأشدّ سوءاً نسير أيضاً.. وأيضاً.
لكن، هل ستبقى أمورنا هكذا إلى ما لا نهاية؟
بمنطق التاريخ وسياق التحوّلات البشرية العامّة التي تستبدل نفسها بنفسها، انطلاقاً من جدليّة الضعف والقوّة لديها، لا نعتقد بذلك، حتّى ولو طالت هذه الحال البئيسة المؤسية بنا عقوداً، بل قروناً، لأنّ الإنسان المهزوم، المُدمّر، المُهان، تظلّ تنغُلُ فيه هو الآخر غريزة الأمن الدفاعي المواجِه، وهي الغريزة الأقوى من أيّ شيء فيه.. أقوى، حتّى من غريزة الطعام والشراب، وحتّى من “غريزة الموت” الاعتيادي عينه؛ فالشعوب تنطوي في سرّها دوماً على دواعي انفجار لحظتها التاريخية الكبرى، والتي لا يتوقّع أحد حدوثها (مهما بلغت حصافته السياسية وذكاء رصد مراكزه الاستراتيجية وتحليلاتها)، فارضة خلالها قياميّتها الجديدة على الجميع، مُفاجِئة بها نفسها قبل أعدائها، ولا تترك للأعداء بالتالي، حتّى مجال لملمة نتائج إرباكهم الأوّلي.
ومن نافل القول إنّ ما يجري عربياً الآن، هو عارض من أعراض الفجوة التاريخية الكبرى التي أوصلتنا إلى كلّ ما نحن فيه من تخبّط وفوضى وعنف وتراجع سياسي مخيف.
وهذا التراجع السياسي، في المناسبة، وحتّى نكون موضوعيّين أيضاً، لا يقتصر على وضعنا العامّ عرباً في هذا العالَم فقط، بل هو يطاول شعوباً وسياساتِ دُولٍ عديدة، من بينها دُول كبرى وحتّى دُول عظمى ممَّن يتحكّم بعضها باللّعبة، من ألفها إلى يائها؛ أولئك الذين يبرّرون كلّ شيء تحت لافتة تحقيق مصالحهم، وحفظ أمنهم الاستراتيجي وغير ذلك من مكرور أسطواناتهم المشروخة التي صدّعت رؤوسنا، وعلى حساب مصالحنا بالتأكيد نحن العرب من الماء إلى الماء؛ فأعداء أمّتنا أو خصومها اليوم، من قادة سياسيّين وعسكريّين، ليسوا بمستوى نظرائهم من أعداء الأمس، الذين كانوا أكثر استيعاباً لحدود اللّعبة الدموية الكبرى وتداركاً لنتائجها، بحيث لا تنقلب عليهم وهُم في عقر دارهم، ومن حيث لا يحتسبون مثلاً.. على غرار ما حصل في أكثر من عاصمة أو مدينة غربيّة مؤخَّراً.
نعم، اللّاعبون الكبار في الشرق الأوسط العربي والإسلامي، من غربيّين وشرقيّين على السواء، باتوا جميعاً يخوضون حروباً علنيّة وسرّية. والحروب السرّية منها، طبعاً، أخطر وأدهى، ولا منتصر فيها البتّة، مهما طال أمدها، لأنّ الضعيف يستطيع أن يكمن للقوي ويرديه في مصالحه وغير مصالحه، مهما آنس هذا القوي قوّة وجبروتاً. سُئِل الناشط السياسي اللّيبرالي الألماني هانز ديتريش شول في أثناء زيارته الأخيرة لبيروت (على هامش استضافته في صالون أدبي وسياسي لبناني) عن رأيه في ما يجري من حروب مفتوحة في المنطقة، ومتى ستضع أوزارها؟ ومَن سيحسم عمليّة إيقافها إلى غير رجعة؟ فأجاب بما موجزه، أنّه كان مُقدّراً لهذه الحروب أن تستمرّ عشرات السنين، ومن دون أي حلّ سياسي واضح لأهدافها الغامضة، لو لم تنتقل آثارها الدمويّة “إلى مُدننا الغربية في أوروبا والولايات المتّحدة.. نعم، انتقلت إلينا الحروب السرّية، وبتنا مهدّدين في أمننا السياسي والاقتصادي والاجتماعي والمعتقدي؛ وعلى نحو أكثر رعباً وإرعاباً من مسرحها الأساس. ولأنّ الأمر كذلك، ولأنّ شعوبنا الغربيّة غير مُهيّئة أصلاً لمثل هذا النَّوع من ثقافة الحروب الغرائزية، ولأنّ مَن تصوّر نفسه أنّه يتحكّم باللعبة، وسيكون بمأمن من نتائجها الارتداديّة، وبأنّها سوف لن تطاوله، سار ويسير بخطىً جدّية وحثيثة الآن في البحث عن مخارج فعليّة لهذه الحروب اللّامتماثلة السائِدة في المنطقة”.
ولما سُئل المراقب الألماني عن توقيت نهاية هذه الحروب.. قال إنّه لا يعرف، ولكنّه متأكّد من أنّ الأمور كلّها وُضعت على سكّة الحلّ الفعلي والقاطِع، وإن ظلّت مسافته طويلة بعض الشيء، لأنّ العالَم المتشابك المصالح، والمتداخل بعضه ببعض، لم يعد يحتمل أو يقوى بعد الآن، على حروبٍ سرّية وعلنية صاعقة تفاجئه ويتساوى فيها القوي بالضعيف خراباً وعصفاً دموياً. ومن هنا بدأنا نقرأ عن أصوات ثقافية جدّية في الغرب تدعو إلى إغلاق ملفّ هذه الحروب وبأيّ ثمن.. ويبدو أنّ الاستجابة لها باتت شأناً واقعياً وليس نظرياً فحسب.
هكذا، فإنّ السياسة لن تستطيع أن تُصادِر الثقافة والمثقّف في الغرب أكثر ممّا هو سائد الآن، وذلك على الرّغم من أنّ ثقافة الغرب السياسية، وغير السياسية أيضاً، بات أغلبها مفرّغاً من مضمونه اليوم، مقارنةً بالأمس القريب عل حدّ ما أوضح لنا المفكّر الألماني اللّيبرالي هانز شول.
ما التقطه خالد الفيصل
وإذا كانت الحرّية، دائماً وأبداً ثقافة، وليست سلطة، فإنّ عظماء الثقافة الحقيقيّين، لا يعرفون العدائيّة والبغض والتباغض، بل هُم أصدقاء شعوبهم وشعوب الأرض قاطبة. نعم، سيحيا إنساننا في هذه المنطقة العربية من جديد، وسيستعيد هويّته العربية بديناميّتها الثقافية والسياسية والاجتماعية، لأنه لم يقرّ يوماً (وخصوصاً بينه وبين نفسه) بأنّه مقصيّ، على الأقل نظريّاً، عن قوّة ثقافة التقدّم والتحضّر والتعلّم والتجاوز، وسائر السياسات الدافعة لذلك، وإن عاكسته، طبعاً اليوم، تداعيات الحروب والخراب المُقيم والمفتوح، أينما اتّجه، وولّى وجهه شطر وطنه العربي الكبير.
وهذا الأمر التقطه الأمير خالد الفيصل، رئيس مؤسّسة الفكر العربي من زمان، أي قبل هذه النكبات العربية المستجدّة وفي أثناء تداعياتها المتوالية وعلى نحو غير مسبوق اليوم، فلم يتخلَّ البتّة عن نهج التفكير العربي المُشترَك والعمل العربي المُشترَك في إطار سيو/ ثقافي وفكري بارز، سمّاه “التكامل العربي”، وعمل على ترجمته على الأرض عبر مسار مؤتمرات فكريّة عربيّة استراتيجيّة جامعة امتدت محطّاتها، بدءاً من المغرب الأقصى مروراً بالقاهرة ووصولاً إلى أبوظبي قبل أيام.. وكلّ ذلك في إطار هُدي مصباح العروبة الحضارية الجديدة والمتجدّدة، هويّة ونهجاً فلسفياً وإنسانياً مُنفتحاً على سائر الهويّات.
وفي زمن باتت العروبة فيه مع الأسف “مجرّد تركة أثرية”، بحسب كثير من المُغالين العرب وغير العرب، يصرّ الأمير خالد الفيصل، ونحن معه بالتأكيد، على ألّا بديل عن هذا التفكّك العربي الذي يكاد يأخذ طابع الانتحار الجماعي، إلّا العروبة نفسها، هويةً وعنواناً ثقافياً وسياسياً جامعاً لشتات هذه الأمّة، ودائماً على قاعدة النقد المعرفي لكلّ التجارب القومية السابقة؛ وانطلاقاً أيضاً من أنّ كلّ الشعوب المركزية المتقدّمة في العالَم، تعتزّ بقوميّتها، وتُكافح لأجلها في السياسة والثقافة والحضارة أو العمران البشري؛ ولنا مثالاً على ذلك فرنسا، التي تجتهد لحفظ قوميتها وتراثها ولغتها داخل القارّة الأوروبية وخارجها، ولاسيّما من خلال إنشائها المنظّمة الدوليّة للفرنكوفونيّة التي تضمّ حوالي 80 بلداً ناطقاً باللّغة الفرنسية، كلغةٍ رسميّة أو لغة مُنتشرة، وذلك حتّى ديسمبر (كانون الأوّل) من العام 2014.
وتوخيّاً للإيجاز نقول إنّ الأمير خالد الفيصل حين يدعو إلى إحياء المشروع القومي العربي في هذه الأيام الصعبة والحرجة من تاريخ أمّتنا، فلأنّه يُدرك أنّ هذا المشروع، هو في العمق دعوة إلى التغيير الاجتماعي، وإلى التحديث والتحرّر وإلى التقدّم وإلى التأكيد على الدَّور الحضاري للأمّة العربية، وذلك مهما كان الوعي الاستناري العربي فيها مغدوراً ومشتَّتاً ومتّسماً بغياب الجديّة والحوار وطغيان الجهل والتجهيل. ولذلك هو أطلق مؤخّراً صرخة مدويّة وعظيمة بجرأتها وصلابة توجّهها في مؤتمر “فكر15” الأخير في أبوظبي قائلاً: “لا يُحسَد اليوم مَن يقف على منبر العروبة متحدّثاً، ولا من يتقدّم صفوف المسلمين مُدافِعاً، فلقد ظلمنا الإسلام وشوّهنا صورة المسلمين، وخذلنا العروبة وهجّرنا العرب لاجئين، وكفّر المستشيخون علماءنا، وسفّه المستغربون خطابَنا، وصمتت الأكثرية… انهضوا أيّها العرب واستيقظوا أيّها المسلمون، لا تسمحوا للاستعمار أن يعود، ولا للتقسيم أن يسود، واعملوا العقل، لا عدمتم الذكاء”.. إلى أن يقول: “لماذا لا نطرح فكر نهج جديد بالعِلم والعمل والرأي السديد، لنكتب منه للوطن نشيد؟”.
كلام أوضح من الوضوح و أسطع من السطوع، يمثّل فيه الأمير خالد الفيصل مفهوم الإرادة القومية الشجاعة التي تسمّي الأشياء بأسمائها، وتُعايِن الأمور بما هي عليه مباشرةً، وبالتالي فإنّنا لا نماري ولا نحابي إذا ما قلنا إنّ أبا بندر هنا هو مُنتِج وعي متجدّد للناس، وداعية كبير لحماية الجسم الجيوبوليتيكي للأمّة العربية، وهو في دعوته إلى التكامل العربي، يرى أنّ علاقة هذا التكامل بالتقدّم، هي علاقة السبب بالنتيجة، وأنّ كلّاً منهما سبب للآخر، ونتيجة له على السواء.
نشرة أفق (تصدر عن مؤسسة الفكر العربي)