خفايا الأزمة الليبية
شهدت ليبيا في نهاية العام 2010 انتفاضة واسعة ضدّ الرئيس السابق مُعمر القذافي، دعمتها الأمم المتحدة بطلب شكلي من جامعة الدول العربية، لتحفيز مجلس الأمن على استخدام القوة المسلحة في هذا البلد العربي، تحت ذريعة حماية المدنيين، وقامت قوات حلف شمال الأطلسي، بقيادة بريطانيا والولايات المتحدة الأميركية وفرنسا وإيطاليا، وبمشاركة كل من كندا وإسبانيا، إضافة إلى مصر والإمارات وقطر، بالالتفاف على تنفيذ القرار 1973 بطرق ملتوية واعتبر المشاركون في العمليات العسكرية أن مهمتهم يسيرة، وتنتهي بالقضاء على الرئيس القذافي، على اعتبار أن ليبيا ليس فيها اختلافات دينية ومذهبية وطائفية (بخلاف سوريا والعراق)، وأن الأمور ستستقر بتشكيل حكومة جديدة موالية لمصالح الغرب، يتم بعدها تقاسم ليبيا بثرواتها الهائلة.
لكن ما جرى على الأرض كان مخالفاً لحساباتهم الخاطئة، فحدث الانقسام بأشكال مختلفة ومتعددة، ليحدث بعدها تصادم وصراع بين عدد من الميليشيات، التي سرعان ما تشكلت إثر الانفلات الهائل على الأرض والدعم القادم لها من الخارج، ليشتعل فتيل الاقتتال في ما بينهم، وكل منهم يهدف إلى السيطرة على الأرض وتحقيق المكاسب.
وما لبث أن زاد لهيب هذا الاقتتال وامتداده، مع زيادة أعداد الميليشيات وانتشارها، بفضل تدخل قوى إقليمية ودولية، كل منها تدعم فريقاً أو أكثر ليتقاتل على الأرض.
هذه الدول لم تكن راغبة بعد الإطاحة بالقذافي وقتله في الانخراط بتدخل عسكري مباشر، وفي بسط الاستقرار والأمن في ليبيا، تاركة الحرب تشتعل بالوكالة عنها، فعملت على دعم القوى المتناحرة لتأجيج الاقتتال وإضعاف البلاد للسيطرة عليها، لكن وعلى العكس من ذلك، نشأت فوضى عارمة لا مثيل لها، وخرجت الأمور عن السيطرة.
أرادت الدول المتورطة في الحرب الليبية أن تستغل هذه الفوضى في تحقيق غاياتها وأهدافها، بعيداً من المجتمع الدولي المتمثل في الأمم المتحدة. وبتدمير ليبيا، تحقق هذه الدول أهدافها المختلفة، ما يدفع بشركاتها لاحقاً إلى إعادة إعمار ما دمرته الحرب، لجني مليارات الدولارات من جهة، وتحقيق السيطرة الجيوسياسية على الأرض من جهة أخرى، كل بحسب أهدافه.
وبذلك، نشأت قوتان رئيسيتان متناحرتان متقاتلتان على الأراضي الليبية، كل منهما يتم دعمه من قبل الدول الإقليمية والدولية بالمال والسلاح والحماية الدولية، وهما قوة موجودة في طبرق، يمثلها البرلمان الليبي المعترف به دولياً (والذي غادر طرابلس)، إضافة إلى الجيش الليبي بقيادة المشير خليفة حفتر. أما القوة الأخرى، فموجودة في الشرق على الحدود مع مصر، وفي طرابلس والغرب بالقرب من الجزائر، وتتضمن ممثلين بثلاث هيئات هي: المؤتمر الوطني الليبي، ويضم تيارات متعددة أغلبها ذات طابع إسلامي، وحكومة الوفاق الوطني بقيادة فايز السراج، والمجلس الأعلى للدولة الذي يحاول انتزاع صلاحيات البرلمان.
هاتان القوتان تدعمهما دول عديدة، لكل منها أجندتها وأهدافها الخاصة بها، فنجد في الجانب العربي:
جمهورية مصر العربية: تدعم البرلمان الليبي والمشير حفتر، بهدف حماية حدودها، وعدم قيام حكومة تضم جماعات الإخوان المسلمين، وما يترتب على ذلك من مخاطر الدعم التركي للإخوان.
الإمارات العربية المتحدة: تشاطر مصر قلقها وخشيتها من الجماعات الإسلامية المتطرفة في ليبيا، وتدرك أخطارها على استقرار المنطقة والإمارات، وخصوصاً بعد تجربتها مع حركة الإصلاح على أراضيها، وبذلك تكون داعمة للبرلمان الليبي والمشير حفتر.
المملكة العربية السعودية: عملت في البداية على دعم جبهة مصر والإمارات، لكن بسبب موقفها من الحرب على النظام في سوريا، تراجعت بعض الشيء، ثم أخذت الجانب الحيادي.
دولة قطر: عملت على دعم الأطراف الأخرى، مثل جبهة طرابلس العاصمة، كحكومة الوفاق أو البيان المرصوص أو المؤتمر العام، لكونها تدعم التيارات الإسلامية المتشددة أينما وجدت، مثلما دعمت كلاً من داعش وحركة أحرار الشام في سوريا.
أما دولياً، فنذكر:
تركيا: تشترك مع السياسة القطرية، وتزيد عليها إصرارها على توظيف المزيد من القوة عند الجماعات الإسلامية المتشددة، لمدّ نفوذها وتوسعها خارج إقليمها (كما يحلم إردوغان العثماني)، وبالتالي الضغط على مصر، خصمها اللدود، وتهديد الجنوب الأوروبي بورقة اللاجئين. وقد نجح إردوغان في خلق توازن بين طرفي الصراع الأساسيين السراج وحفتر.
الولايات المتحدة الأميركية: لا تسعى إلى التورط في منطقة الساحل الأفريقي، وخصوصاً في المستنقع الليبي الذي يتصف بالفوضى والاقتتال والإرهاب، على الأقل في الوقت الحالي.
روسيا الاتحادية: تحارب الخطر الإسلامي المتشدد في أي مكان، كما في سوريا، بسبب خشيتها من تأثيرهم في مسلمي روسيا البالغ عددهم ما يقارب 20 مليون مواطن، ومن تصدير أفكارهم المتطرفة، مدركة أن الغرب كثيراً ما سعى إلى استخدام مثل هذه الجماعات المتطرفة في خلق البلبلة والتخريب فيها، إضافة إلى وجود مصالح سياسية وعسكرية واقتصادية أدركت روسيا أهميتها في ليبيا على أمنها القومي. وعلى غرار “بلاك واتر الأميركية”، أرسلت قوات فاغنر غير النظامية إلى ليبيا، على الرغم من نفي الرئيس بوتين، فدعمت بذلك المشير حفتر.
أما الدول الكبرى الأخرى، فلكل منها أيضاً أجندتها الخاصة بها في ليبيا، وهي تقاتل وتدعم الأطراف المختلفة على الأرض الليبية من أجل تحقيقها، فالصراع بين فرنسا وإيطاليا على ليبيا قديم. صحيح أن كلاً منهما يشترك في خشيته من عبور المهاجرين إليه، لكنهما تختلفان في أطماعهما بالاستيلاء على ثروات البلاد من النفط والغاز والذهب، وحتى في إعادة الإعمار.
ولذلك، قامت كل منهما بدعم فريق من الأطراف المتصارعة في ليبيا، فقررت فرنسا دعم المشير حفتر، لوجود الكثير من مصالحها ضمن المناطق التي يسيطر عليها. في المقابل، دعمت إيطاليا الأطراف الأخرى، كالسراج، لوجود مصالحها في الغرب، والواقعة تحت سيطرتهم.
ولفرنسا التي دعت إلى مؤتمر باريس (كما دعت إيطاليا إلى مؤتمر باليرمو) مصالح مباشرة في استمرار القتال في ليبيا، إذ إن إحلال السلام وتشكيل حكومة وطنية مستقرة، سيمنعها من الاستمرار بالاحتفاظ بالأموال الليبية المودعة في فرنسا، وتقدر بمئات المليارات من الدولارات، ومن استمرار تدفق النفط الليبي المهرب من قبل الميليشيات بأسعار رمزية، وكذلك إيطاليا.
ومن الواضح أن الدول الإقليمية والأوروبية لم تكن تسعى إلى حل المسألة الليبية. ولذلك، تم إضعاف دور الأمم المتحدة في هذه المسألة، فعقد المؤتمرات وتدخل الوسطاء الدوليين الفاعلين وإجراء لقاءات سرية وعلنية، لن يؤدي إلا إلى الفشل واستمرار الصراع، لعدم وجود رغبة دولية حقيقية في إنهاء النزاع في ليبيا، على الأقل خلال المستقبل القريب، والسبب هو التباين الكبير بين أهداف ومصالح الداعمين من الشرق إلى الغرب في ما يريدونه من ليبيا.
عندما انعقد مؤتمر موسكو في 12 – 13/01/2020، الذي يهدف إلى ضمان العملية السلمية في ليبيا، استطاع الرئيس بوتين أن يحقق عدة أهداف، تمثلت في إبلاغ الرئيس إردوغان رسالة مهمة، تتضمن عدم القبول بإرسال قواته النظامية إلى ليبيا، كما في إرسال قوات غير نظامية مشكلة من المقاتلين السوريين في شمال سوريا. وأيضاً استطاع أن ينال اعترافاً دولياً بدخول روسيا رسمياً في الأزمة الليبية، بعد أن اختار التوقيت المناسب لذلك (كما فعل في سوريا)، لتصبح روسيا الآن اللاعب الأساسي في فرض الحل السياسي فيها.
وجد المشير حفتر أن التوقيع على هذا الاتفاق سيعزز من فرص غريمه السراج على الأرض، وسيحصل على مكاسب عجز عن تحقيقها في الحرب، وسيؤدي ذلك بالضرورة إلى الاعتراف به وبشرعيته، بالرغم من أن موازين القوى في صالحه، وبأنه يستطيع أن يحقق مكاسب أكثر بالآلة العسكرية.
ولذلك، غادر المشير حفتر موسكو من دون أن يوقع على الاتفاق. ومن المفيد ذكره أن الرئيس بوتين، لو أراد، لكان باستطاعته الضغط عليه، أو على الأقل نقده إعلامياً، ولكنه لم يرغب في ذلك، وهو لو شعر بالإحراج بسبب تصرفات حفتر ومغادرته موسكو، لما حضر مؤتمر برلين لاحقاً، ولما انعقد المؤتمر أساساً.
لكن انعقاد مؤتمر برلين له العديد من الأسباب والدوافع، فالدول الأوروبية أصبحت أشد قلقاً من عدم إمكانية حسم الصراع في ليبيا، الذي تسبب في زيادة الهجرة من أفريقيا إليها، وفي انتشار الإرهابيين في العديد من الدول الأفريقية، كما في مالي. والأهم الدخول القوي لكل من تركيا وروسيا إلى ليبيا، فكل منهما يسعى لتأمين قواعد عسكرية جوية وبحرية فيها، لتشرف على حدود أوروبا الجنوبية، وهما خصمان لأوروبا، ويشكلان تهديداً لها، فروسيا التي تزود أوروبا بالغاز، ستؤدي سيطرتها على الثروات النفطية في ليبيا إلى تحكّمها الكامل بالغاز الوارد إلى أوروبا، وإلى تحقيق حلمها في الوصول إلى مياه البحر المتوسط الدافئة والاستقرار فيها (وقد تحقق لها ذلك في سوريا، فلمَ لا تتوسع نحو الغرب من المتوسط بإطلالة أوروبية؟).
أما إردوغان، فهو إخواني، ولديه مشاريع توسعية دينية عثمانية، ويمكنه أن يحرم الأوروبيين من منابع النفط والغاز في ليبيا، وأن يهدد بورقة المهاجرين، وسبق لتركيا أن استخدمتها أكثر من مرة من خلال الملف السوري.
وفي النتيجة، إن تطوّر الصراع في ليبيا، وتعدد الأطراف المتنازعة داخلياً، وتورط العديد من الدول فيها، أجبر الأوروبيين على محاولة الانخراط بشكل جدي لأداء دور أكثر فعالية لحل الأزمة في ليبيا، بعيداً من الحل العسكري، لكنهم وصلوا كعادتهم متأخرين، فهم يدركون أن القانون الدولي عاجز عن حل المسألة الليبية، والسبب في ذلك هم أنفسهم، بسبب التضارب في مصالحهم.
وفي داخل البيت الأوروبي هناك خلافات كبيرة أيضاً، وخصوصاً بين إيطاليا وفرنسا، وصلت إلى مرحلة استدعاء السفراء والشتائم اللفظية، فضلاً عن أن الاتحاد الأوروبي يعاني حالياً من مرحلة ضعف، بعد انسحاب بريطانيا من الاتحاد، وانتشار فيروس كورونا، وعدم تقديم المساعدات بين دوله لمحاربة الفيروس، ما أدى إلى قيام روسيا باستغلال الوضع وتقديم مساعدات هائلة لإيطاليا، التي قدّرت كثيراً الخطوات الروسية في مقابل ذمّ دول الاتحاد الأوروبي.
إنّ الحل في ليبيا معقّد وصعب. وفي الوقت الذي غابت الدول العربية من المسرح السياسي، يتطلّب نجاح الحل السلمي أن تقوم الدول المتدخلة في ليبيا بالاتفاق على وقف دعم الفرقاء المتحاربين فيها بالمال والسلاح، والابتعاد عن المصالح الخاصة والضيقة، وأن تقبل بفرض اتفاق يؤدي إلى تقاسم السلطة في ليبيا، وأن تجري بعدها انتخابات حرة من دون إملاءاتها وتدخلاتها، والإقرار بعدم وجود غالب أو مغلوب، وخصوصاً أن الدور الروسي بدأ يثمر ويأخذ طريقه في التدخل الفعال والمباشر عند أطراف النزاع في الأزمة الليبية، مؤثراً ومستغلاً حالة الوهن والخلاف والرؤية الضيقة التي أصابت الكثير من دول الاتحاد الأوروبي.
الميادين.نت