خفقة القلب (12)
آن للكلمات أن تخرج من صمتها ، تيار جارف من الكلمات الهائمة في رأسي ، القلم الصامت يتململ ويتثاءب بين أصابعي ، سيبوح أخيراً …دعوني أخلع وشاح الصمت عن قلبي وأمزق أختام الشمع الأحمر عن شفتيّ وأروي ما شاهدت بكل صدق وبكثير من الخجل! فتاة شهية، كأنها ابنة الصباح ، وهبتني خبز حياتي ..فستانها كان أحلى، وجهها كان أحلى، عيناها كانت أحلى، ابتسامتها كانت أحلى ، شعرها كان أحلى ، كل شيء فيها كان أحلى، الكون كان أحلى ، وحتى زماننا كان أحلى !
في كل مرة أراها فيها تدهشني أكثر وكأنني أراها لأول مرة ، كان يكفيني أن أتأملها من بعيد وأن تقع عيناي عليها وأدرك من نظراتها عمق المشاعر التي تحسّها نحوي ، فلكل نظرة حكاية.. ولكل ابتسامة قصة .. لم يعد يعنيني شيء في حياتي سوى أن أفكر فيها ، وأحبها وأكتب إليها ، ولم يعد يخيفني شيء سوى أن أخسرها، كنتُ أحرص على ألا يمرّ يوم دون أن ألقاها ، أجمل النزهات أن تذهب إلى قلب من تحب، تتظلل بصداقته، وترتوي بكلماته ! العينان أصبحتا فصيحتين، والنظرة أصبح لها معنى هي تقول بعينيها وأنا أسمع بعينيّ.. أسير خلفها، وكأن قدميّ لا تحملان جسدي، أترك لقدميّ أن تسيّرني، أن تأخذ بي حيث تريد، وحيث يحلو لها شريطة أن تتبعها! إحساس غريب يملؤني بالزهو والفرح والسعادة ، كأنني أمسك السماء بعيني ، وأمسك العالم بيدي، وكأن العالم كله أصبح ملكي، شعور لذيذ لم أشعر به من قبل، أشعر أنني أحببتها قبل أن تأتي الحياة وقبل أن يأتي البشر! كنت أودّ أن أرتوي منها وأخسر نصف عمري..هل قلت نصف عمري ؟ لا .. أخسر العمر كله ! حاولتُ مراراً أن أتحدث إليها لكني لم أجد في نفسي الجرأة، كنت أحسّ بوجودها وأكاد أسمع أنفاسها وكأنها قريبة مني ، كان قلبي يقفز وجسدي يرتعش ارتعاشة تهزّ كياني كلما رأيتها أو سمعت وقع أقدامها أو شممتُ رحيق أنفاسها ، يريد أن ينتقل من جسدي ليعيش في قلبها ، يتفتتُ جوعاً إلى كسرة من السعادة ، وقطرة من الحب ! ما أن أسمع صوتها حتى يتمدد الشوق بداخلي ولا أعد أميّز بين الألم والحب، يبدو أن الحب هو بداية الألم! كان كل ما أسعد به في هذه الدنيا أن تبقى صديقة قلبي، أن أعيش بجانبها، أن تقاسمني رئتي ،أن أتنفسها ، أن أملأ أذناي بصوتها ،أن نبقى معاً ،أن نلتقي دائماً ، ألا نفترق أبداً ، فحين تكون هي يكون قلبي معي !
أعودُ إلى المنزل وما زال ظلّي واقفاً مكانه علّه يراها فيخبرني، فقد فارقتُ ظلي بعد أن أصبحتْ هي ظلي ! تركتُ أبواب قلبي ونوافذه مفتوحة كي يأتي الحب بلا معوقات ! في البداية تعثرت بالحب كالطفل الذي مازال يحبو ويتعثر بخطاه ، هذا الحب الذي بدأ ينمو في جسدي كالبرعم الصغير الغافي في الأعماق ،ويكبر عبر تعاقب الفصول ،كان حبنا مثل أول امتلاء الأغصان بالزهر والأوراق في فصل الربيع، ورغم أن حبي لها لم يكن إلا وليداً بدأت جذوره يوم زرت عينيها إلا أنه سرعان ما تجذّر في ذاتي وراح ينمو في الخفاء حتى أينعت زهوره ،وشربته حتى استقر في أحشائي وترسب في كريات دمي الحمراء والبيضاء والخضراء! وحافظتُ عليه حفاظي على شيء مقدس ، فقد ربطنا بحبال ليس من صنع البشر! لقد أحببتُ نفسي من أجلها، و رغم أنني كنت لا أتزود منها سوى نظرات محدودة، فقد أصبحتْ محور حياتي! يا إلهي كم أحببتها ، واستمطرتها حباً يغمر الوديان ويصل حتى المرتفعات .. كم هو رائع أن أستطيع إخراج بعض أحاسيسي على الورق ! لا أدري ما الذي جذبني إليها لأحبها ذلك الحب البكر الذي تفجّر من عيني ومن قلبي قبل أن يتفجر من لساني ومن شفتي، أسمع هدير الحب ، حب يفيض كموسم الأمطار الواعد! لا أدري كيف ملكتْ نفسي وسيطرتْ على قلبي وعواطفي، وجعلتني أستعين بذاكرتي لاستعادة طيفها! أرى ذاكرتي تمتلك سلاحاً لا قدرة لي عليه .. ليس سهلاً أن أشرح لماذا أحببتها؟! كيف أعطتني الضوء الأخضر لأن أتنفس برئتيها، وأرى بعينيها ، و أكتب بأصابعها ؟
إنها عروس لكتاباتي، فكلما حاولت الكتابة إليها تأخذني مخيلتي إلى عينيها ، فأراها بين سطور كتاباتي، تقيم في النخاع الشوكي ، في الدورة الدموية ، في الشبكة البصرية للعين ، في مسامات الجلد ، وجودها في حياتي يمنحني كل السعادة التي أرجوها ،كل حواسي تطالبني بها ، بإحضارها من السماء أو من تحت الأرض ، تستحضرها في الغياب ، تذكرني بكل جيوش قوات التحالف: بصوتها ومشيتها وضحكتها وطلّتها ونظراتها وكل شيء فيها، لقد غدوتُ لا أفكر إلا فيها ، ولا أطلبُ وجهاً إلا وجهها ، ولا أشعرُ براحة في جسدي وروحي إلا حين أراها، فالساعات التي تنقضي دون أن أراها فيها تبدو مثقلة وجافة ولا أحتسبها من رصيد عمري ، إنها حقل ألغام من الحب والأحاسيس والعواطف والمشاعر! فماذا أصنع بقلبي الذي يرتمي على قلبها ؟ وأعتذر لقلبي لأني أتعبته كثيراً طيلة سنوات حبي !