خفقة القلب (13)
كان يوماً مليئاً بالانتظار..ميعاد الحب ; هكذا سميت ذلك اليوم ..دعاني قلبي لانتظارها..إن لحظة حب ونظرة واحدة تبرر عمراً كاملاً من الانتظار..وقفتُ في الطريق مصطحباً جسدي وظلي وذاكرتي ..صباحي كان له طعم مختلف هذا اليوم..شاءتْ الأقدار أن تدخل دكاناً لبيع الخضار والفواكه ، لا أدري كيف تسارعت خطواتي إلى تلك الدكان ، رأيتها تنتقي من صندوق التفاح وتضعها في كيسها الورقي، فأجد نفسي أملأ كيساً من التفاح دون أن أكون بحاجة إليه ! التقطتُ تفاحة حمراء بلون خديها ، عانقتها بأصابعي ومررتها على خدي ، غالبتُ ترددي ودون أن أنظر لما حولي ، وضعتها في الكيس لديها وخرجتُ مسرعاً خجولاً ، وتتّبعها بنظراتي المسروقة، همّتْ بأن تقول شيئاً لكنها وجدتْ الكلمات تتعثر في حلقها ،وأحسّتْ بارتجافة سريعة تسري في أناملها.. يا الله .. لقد ازداد احمرار خديها حياءً وخجلاً بلون تلك التفاحة العذراء ! اشتهيتُ قطافهما وشمّهما وتقبيلهما، فأنوثة الفتاة تقاس بحيائها ! أنا من محبي اللون الأحمر لأنه يوجد في وجوه النساء حين الحياء ! لأول مرة أسمع دقات قلبها! بسرعة احتلت موقعها في جسدي ، وبدأت خيوط الحب تجمع بيننا ،ووجد الحب طريقه إلى قلبي وتمكن منه فبعث فيه الحياة والبهجة، واقتحمتْ أسواره ، وانتقلتْ إلى خانة الحبيبة ! وانطلقت شرارة الحب ليسكن الحب قلبي البكر لأول مرة في حياتي ولتبدأ رحلة طويلة من الأرق والشوق والعذاب، لذة تؤلف بيني وبين الألم كما تؤلف بين الفراشة والنور ،فما أجمل متعة عذاب الحب ممزوجاً بدموع
الليل ! هي تحبني وأنا أحبها وفي هذا ما يكفي وغير ذلك لا يهم في شيء! لم أكن أعلم بأن الحب ليس له مخرج طوارئ للهروب من حرائقه، ولا أعرف الباب الذي دخل منه ، إنه كالجمر الذي أقبض عليه بين أصابعي وبدون إرادتي، حينها أدركت أنّ عليّ مسيرة طويلة من الصبر والعذاب ، وأن الطريق مشوّكاً تحت قدميّ!
عدتُ من الحب إلى منزلي سريعاً ، قلبي يضّخ دماً وينزف حباً ، حواسي في ارتباك شديد. أغلقتُ الباب على عجل ، وألقيتُ بجسدي على السرير وكأنني أريد أن أحتفظ بتلك الأحاسيس الجميلة في مكان مغلق لا يدخله حتى الهواء ،فقد خفتُ على ذلك الشيء الجميل الذي رأيته من أن ينطفئ ، ورحتُ أفرّغ هذه المشاعر الطازجة على صفحة بيضاء ، فشممتُ رائحة كلمات تُكتب كرائحة الشواء، وفوجئتُ بكلمات العشق جالسة على السطور باطمئنان وقد سبقتني إليها، ووجدتْ دفء سكناها في مسامات أوراقي ، أمطرت كلماتي قبل الأوان ،تلك الكلمات التي صببتُ فيها كل أشواقي ،كانت مكتوبة في عقلي ولم أحتج للكثير من إفراغها على الورق..إنها المرة الأولى التي أعبّر فيها عن مشاعري بصدق تجاه فتاة .. تلك هي أول رسالة حب ملتهبة أكتبها إلى فتاة ، تلك هي بكارة رسائلي ! ورغم أنني لا أجيد كتابة الرسائل إلا أن تلك السطور كانت أجمل ما كتبت في حياتي ، فقد شارك قلبي مع حواسي ببعضها في المنطقة المحرمة والمنزوعة السلاح من ذاكرتي !
دماء الحب تجري في شرايين حروفي وأوردة كلماتي، لقد عنيتُ كل كلمة كتبتها لأنها انسابت من قلبي إلى فم قلمي دون الاستعانة بالعقل ، سرعان ما تعايشتْ الكلمات مع السطور، أردتُ أن أعبّر بالقلم عن كل ما عجز اللسان النطق به ..كتبتُ تلك الرسالة قبل أن تبلغ كتاباتي سن الرشد ، دون أن أروضّ الكلمات قبل أن أكتبها ، ودون أن أحصل على رخصة حمل القلم! أنهيت الرسالة على عجل، طويتُ الورقة ووضعتها في الغلاف ولصقته بصمغ الحب، ترددتُ كثيراً كيف سأسلمها تلك الرسالة؟! لجأتُ إلى جيبي فأودعتها رسالتي، كنتُ بين حين وآخر ألمسها بأصابعي وأدفئها لتصل إليها طازجة وحارة بحرارة مشاعري! عدتُ إلى مكاني بجانب الدكان ، قرأت كل ما حفظته من أدعية ومن قصار السور القرآنية ، كان القدر رحيماً، لم أكن أدري أنه يختزن لي هذه السعادة كلها دفعة واحدة ، فقد أكرمني وحقق حلمي بأسرع ما كنت أتصور، وابتسمتْ لي الحياة ، فقد عادتْ ثانيةً إلى الدكان لشراء أشياء أخرى نسيتها عن قصد .. دخلتُ الدكان سريعاً لأشتري أيضاً أشياء لستُ بحاجة إليها .. ودون وعي وبعد أن امتلكت رصيداً كافياً من الحماقة والجنون، وضعت الرسالة في الكيس لديها..فتوردتْ حياء كثمرة تم نضجها وتنتظر قطافها، وكوردة تهتز كأنما تدعوني إليها لاستنشاق عبيرها ، ولعلّها في قرارة نفسها تنتظر يدي لتمتد إليها وتقطفها، أو تنتظر نسمة هواء تدفعها نحوي حتى لا تشعر بابتذال نفسها! هنا أعترف للمرة الأولى أن دموعي انتصرت عليّ ،فبكيت بكارة دمعي فرحاً ذلك اليوم، ورحتُ أمسح دمعة اغتصبت سبيلها إلى عيني ، وأقّبّل أصابع يدي التي لامست الرسالة واحتضنت التفاحة! أستعيد ذكرى تلك الأيام وأنا أحس بشوق لا يقاوم ، وأشعر بأنني أصبحت خفيفاً بعد أن رميتُ بثقل ذكرياتي التي حاربت طويلاً كي تبقى على قيد الحياة!