خفقة القلب (14)
حسبتُ أن أملي باستلام رسالة جوابية منها قد توارى ، وإذ بي بعد أيام قليلة أتلّقى رسالتي الأولى منها عن طريق زميلة لها كانت قريبتي ، ليس بعد ذلك اليوم أياماً أو شهوراً أو سنوناً ، مات الزمن ، مات الليل، مات النهار ، لا أمس ولاغد ، إنه الحاضر مستمر !!
أمسكتُ بالرسالة كالجمرة في يدي ،وتلهفتُ للعودة إلى المنزل والانفراد بنفسي لقراءتها ،أسرعتُ إلى غرفتي ألقي بجسدي وظلي فوق فراشي دفعة واحدة بلهفة واشتياق ،وأنا ما زلتُ بثيابي وحذائي، وارتميتُ على صدري كالعصفور الهارب من العاصفة! رحتُ أضغط على قلبي وكأنني أُهدئه، فتحتُ الرسالة فتدفقت الكلمات في فمي، أكاد أنطق بالكلمات قبل أن تقع عيناي عليها وتسارعتْ انفاسي المتلاحقة بجنون ، رحتُ أقلّب رسالتها الملتهبة بالحب والشوق على كل جنب لعلي ألتقط بعض قبلاتها !
ما أن بدأت قراءة الرسالة حتى شعرتُ أن نهراً من أنهار الجنة يجري تحتي ، وورود تتفتح حولي ، وحدائق تنبت في قلبي ! جريتُ لا هث النظرات ببصري وبعيون قلبي على الكلمات الجالسة على السطور وبدأتُ أقرأ كلماتها قافزاً على الأسطر، ورحتُ أتناولها بعيني ، وأتشرّب كلماتها بروحي، وأفتش عن شوقها وصوتها ونظراتها ورائحتها، وأستخرج شيئاً من بين السطور، وأستمتع بالتجول بين بساتين الكلمات وأزهار الأبجدية ، تستوقفني بعض الكلمات فألثمها بفرحة من عثر على شيء أضاعه، إنه نوع من التحرش الصامت بالكلمات ! شممتُ رائحة عرق أصابعها وأنفاسها كرائحة المطر على البيوت العتيقة، كان ورقها يلتهب بين أصابعي من جمر الكلمات، حرارتها كحرارة جسدها! لمستُ جلد الكلمات بيدي فاحمّر خدّ الورقة خجلاً، نظرتُ إلى الكلمات التي هطلت على قلبي فأغمي عليها ، انتظرتُ قليلاً حتى عادت الحروف إلى وعيها ! يا الله .. فصيلة حبر رسالتها من فصيلة حبر رسالتي، وفصيلة دمها من فصيلة دمي ، وفصيلة حبها من فصيلة حبي !
كانت رسالتها الأولى بالنسبة لي أشبه باكتشاف جسد فتاة لأول مرة! أسرتني رسالتها من سطورها الأولى، ثم ما لبث بصري أن تسلّق الأسطر الأولى ليستعيد قراءتها مراراً، عاودتُ قراءتها ، حفظتها عن ظهر قلب ، التهمتُ حروفها سريعاً ، ركضتُ بين السطور لاهثاً وكأنني أبحث عن شيء ما غير الذي أقرأ ! رسالتها خلقت في داخلي إحساساً غريباً، وأدخلتني في حالة من الارتباك الجميل وفوضى الأفكار! كلماتها تستوقفني ، تستدرجني إلى تذوقها ومعاودة قراءتها جميعاً !قمتُ بالتنقيب بين الكلمات والفواصل والنقاط أبحث عن كل ما هو نائم بين السطور وفوقها وتحتها ،لعلّي أكتشف قبلة مخبأة بين الكلمات أو حرفاً من حروف اسمها ، كان قلبي يلمّ كلماتها اللاهثة من السطور ، ورحتُ أحتسيها ،فقد كانت حروفها مقشرة طازجة دافئة جاهزة للأكل والشرب والحقن بالوريد وبالشرايين الدقيقة !كانت رسالتها محشوة بكلمات العشق والهيام ،تركض لاهثة ، تلبس ثياباً شفافة تفصح عما تحتها ،تبحثُ عن معنى غير المعنى الذي تلبسه ، تستنجد بالصمت كي لا يسمعها أحد ، تنعش ذاكرتي، توقظ أحاسيسي، تفوح منها رائحة الحب والشوق، تجبرني أن أحلّق مع كلماتها وأعيش كل حرف فيها ، وكأنني أنا الذي كتبتها!
مائدةُ الأحلام مبسوطة أمامي .. عشتُ طويلاً مع رسالتها حتى تقدم الليل ، وتسلل الفجر ليلتهم العتمة وأنا ما زلت مستيقظاً ، كانت رسالتها مكتوبة بأصابع قلبها، فهناك رسائل تكتب بأصابع اليد وتذوب في السطور وأخرى تكتب بأصابع القلب لكنها تبقى في الصدر! تذكرتُ كلماتها وهي تُطحن في أذني، ونبرة صوتها وكأنها تقف أمامي، ودون إرادتي دخلتُ إلى جسد كلماتها وروح حروفها وتركتها تستريح وتنام بسكينة على وسادة قلبي بعد أن وجدتْ الحب نائماً ومطمئناً فيه! لقد كتبتْ في نهاية تلك الرسالة هذه الكلمات التي ما زالت محفورة في أخاديد وتلافيف ذاكرتي وجدران قلبي، ولا زلت أحفظها كما يحفظ الأطفال أناشيد تعلموها في روضة وتعلق بذهنهم إلى الأبد “أكتب لكَ بالمقلوب لتدوم المحبة بالقلوب” كانت هذه الكلمات مستلقية على بطنها بدل أن تنام على ظهرها ! هذه الحروف التي كانت بخط يدها هي بداية التعارف وكلمة السرّ بيننا! بعض الكلمات تبقى ساهرة في نفوسنا لا تنام أبداً ! لن أسمح لنفسي بأن أبوح بمضمون الرسالة على الورق خشية أن يُغمى على قلمي بين أصابعي ! كادتْ الفرحة تذهب بعمري كله، وأحسستُ أن قلبي يرقص طرباً ويخفق بشدة ، وبأن برعم الحب بدأ ينمو تحت مسامات جلدي ! كانت الكلمات والمفردات أكثر دلالة، شديدة الحرارة ، تتنفس ، تنتعش ، تتباهى ، تتراقص ، تتبختر في ثياب المسرة ، بتّ أحسد القلم الذي سرق الكلمات من قلبها ،وتسلقّ شفتيها ،ونام بين أحضان أصابعها وهو يكتب تلك الرسالة ! بعد أن انتهيت من قراءة الرسالة وتخزينها في مقدمة ذاكرتي ، لم أمزق أوراقها إلى نتف صغيرة ، لم أفتّتها وأبتلعها كما يفعل الجواسيس بعد أن يقرؤوا التعليمات ويأخذوا بها علماً ثم يعمدوا إلى إخفاء أي أثر لها ! لقد حافظتُ على وريقاتها وعلى كلمات العشق المسفوح بين سواقي الحبر، كما لو كانت سندات ملكية لعقارات الحب طيلة ثلاثين عاماً ، كدليل على أنها حقاً مرّت في حياتي !
أتذكر بأن النوم أبى الزيارة ليلتها وقضيت ساعات الليل وأنا أحاول باستمتاع أن أسترجع نظراتها وتعابير وجهها وابتساماتها، و أستعيد ذلك الشعور الغريب الممتزج بالفرحة والخجل بآن واحد ، شعور عارم بالنشوة خطف قلبي ،جعلني أسرح في قعر الصمت وأستغرق في الشرود !