خفقة القلب (15)
تناسلتْ الرسائل بيننا، لتحبل تاءات التأنيث لديّ ، ويحبل الليل بأحلامها! كل الرسائل والأشياء والهدايا والنظرات والكلمات والبسمات تتحول إلى آلام حين تصبح ذكرى مخزنة في ذاكرة القلب.
كانت تخفي رسائلي في طيات ثوبها ، وبين ثدييها وعلى الجانب الأيسر من جسمها لتكون قريبة من دقات قلبها ! كانت الرسائل أسرارنا ، قوارير العطر وخلاصة العواطف ، والمتنفس الوحيد لمشاعرنا المكبوتة بداخلنا والتي لم نجرؤ على البوح بها ، أكاد أستظهر تلاوة رسائلها عن ظهر قلب وأنا مغمض العينين.
خطواتي تسترخي إلى حيث كنت أنتظرها، أقاوم حنيناً بداخلي يدفعني إلى تكرار النظر نحو المكان الذي شهد اللقاء الأول بها، وأجمل ذكريات حياتي ، فنحن نحب مكاناً محدداً ، أو يوماً أو حتى ثوباً فقط لأنه كان جزءاً من ذكريات جميلة عبرت أرواحنا ! كنت أنتظر لقاءها في لهفة العشاق، أقاوم أسلاك الشوق إليها، وحتى الشمس تنتظرها باكراً لكي تشرق! أحاول التمرن على ابتسامة الشوق إليها ،فما أقسى شوك الانتظار! كان الوقت يزحف ويلهث، تمنيت لو كان شيئاً ملموساً ، لانقضضت عليه أنهشه بأصابعي ،وأمضغ أشلاءه، ثم ألفظه على الأرض، وأدوسه تحت قدميّ !
بتُ أعيش متعة الانتظار ،فالانتظار يولّد الشوق ، والشوق يولّد الحب ، والحب هو السعادة والحياة والوجود كله ! ولكي أشعر بالسعادة لا بد من أن أتناول جرعتي اليومية بالنظر إليها، كالمريض المدمن الذي يتناول جرعته كل يوم! أستحضرها ، أتذكر رائحتها ، أشم الذكرى !هي عمري وحياتي وقلبي وقطعة من كبدي، طيفها في عيني ، صوتها في أذني ، أنفاسها في رئتي ، اسمها في فمي ، روحها في جسدي، خاتمها في اصبعي ، وسريرها في قلبي ، فأين تذهب أو تتغيب؟
أنام متوسداً ذكرياتي ، أُنفق الوقت بين إغفاء ويقظة ، أحلم بها إذا نمتُ وأشتاق إليها إذا استيقظت، حين تأتي إليّ في حلمي تجعل الليل أحلى من الليل ! أستيقظ على صوتي كل صباح وأنا أنادي باسمها ،فكل الأسماء صارت اسمها وكل الأصوات صارت صوتها ! كنت أنام قبل أن يعانق الليل الأرض ويأتي القمر، وأستيقظ قبل أن تفيق الشمس ، لكني أدمنتُ السهر إلى الصباح بعد أن فرض الأرق سيادته على جفوني، أطوي الليل ،أداعب طيفها غير مبال بصخب الساهرين من حولي ، طيفها يأتي ويسرق نومي، يطرد النعاس من أجفاني ، فقد سكن في جفوني وبين أهدابي، يمسك بي عن النوم ، لا شيء ينقصني حين أطبق جفني عليه ، إنه غذاء لجفني ! صورتها تداعب مخيلتي وتتغلغل في دمائي دون إرادتي ،رحتُ أراجع صورتها في مخيلتي وأحسّ بها بقلبي ، أصبحتُ أقف صباحاً لأراها وهي ذاهبة إلى المدرسة وأنتظر مجيئها وهي عائدة إلى بيتها ، أتتبع خطواتها، أتبادل معها بالعيون الرسائل الصامتة الفارغة من الحروف والكلمات ، أرسل لها فتجيب ، ترسل إليّ فأردّ عليها! أُبقيها في مرمى أنفاسي، تمضي في طريقها وتأخذ نظراتي معها، أقرأ الحب في تصرفاتها وأراه في عينيها، أتبعها بقلبي ، أتبعها بظلّي، ألوي معها عنقي حتى يكاد يلّف حول نفسه.
كلما رأيتها تبعث في نفسي الشوق إلى رؤيتها ثانية، ويلّح الشوق عليّ إلى رؤيتها ثالثة ورابعة وألوفاً.. فأهرع إلى قلمي مفتاح فكري وذاكرتي ، أطرّز الحروف وأُخرج الأحاسيس الخصبة المتدفقة الصادرة عن القلب وفق ما يجود به قلمي ، أضم قلمي لقلبي عسى تسعفني حروفي وروحي ، حين تزداد المشاعر تضيق الكلمات ! كانت تكفيني نظرة من نظراتها كمؤونة لجسدي، واكتشفت بعد أيام أنني بحاجة إلى جرعة أكبر..تُرى هل من يشبع من رؤية من يحب ؟ حقاً لقد أدمنت على رؤيتها، ولم أعد أحتمل غيابها ولو لدقائق معدودة..صارتْ رؤيتها كل يوم حاجة ضرورية كحاجة الرضيع إلى ثدي أمه ، والوردة إلى الندى! نداءً داخلياً ، ألبّيه دون وعي وباندفاع من رغبة داخلية تلّح عليّ ! طريق الحب طويل وعذوبته من عذاباته ،فما أعذب الحب وهو يسيطر عليّ بأمطاره وعواصفه ، بهدوئه وصخبه وجنونه ، بعيداً عن أعين الناس والحسّاد.