خفقة القلب (25)
شوق ينسلّ حاملاً قلبي إلى آفاق عينيها ، كنتُ بحاجة إلى جرعة من الصمت جعلتني أعيد اكتشاف وجودي ! تأملتُ فستانها الأزرق الممتلئ بالنقاط البيض الصغيرة كقطعة من السماء امتلأت بالنجوم فزادها فتنة وجمالاً ! ثمة تفاصيل أخرى نسيتها ، كومة من الذكريات في رأسي ،أن يمتلئ الرأس بالصور شيء، وأن يفلح القلم في رسمها شيء آخر ، الكثير من الصور تتزاحم في ذاكرتي تعيدني للسنوات الأولى من حبي لها، ذلك الحب الذي نما بين جدران وأزقة وحارات قلبي القديمة، أحاول وأنا أرمي على هذه السطور المخزون الذي تراكم في ذاكرتي المستنفرة من الأحاسيس والعواطف لتروي حكايتي ، أن أجعل قلمي متصلاً بدماغي ، ملتصقاً بأصابعي ، ملامساً أسطر صفحاتي كي لا تسقط من فمه أية حروف أو نقاط أو فواصل أو إشارات استفهام وتعجب!
وها هو قلمي يسعفني، يعبّر عما في لساني قبل أن تهرب الحروف من الكلمات، يجري على السطور بما أحب أن يجري به ، وسرعان ما تنتهي الصفحات. حروف كلماتي تخضّر ، يصبح لها شكل آخر ، وطعم حلو في الحلق ، حبها الجارف يكاد يُشعل الورق الذي أكتب عليه ! وسأقول الحق : أنني استسلمت لدعاء الحب فألقيت نفسي في ناره ، ووجدت في الاحتراق بهذا الجحيم نعيماً !
ماذا عليّ أن أفعل بأكوام الآهات ؟ شيء ما يتفجر داخلي يأمرني ، لعلّه نداء القلب .. محادثة ذاتية صادقة ، قشعريرة تهزّ أعماقي، ملأتُ صدري بالهواء، استجمعتُ قواي ، وأفرغتُ حمولة أشواقي وعواطفي ومشاعري وأحاسيسي. رحتُ أبحث عن المفردات ، استنجدت بأيدي الصمت وبأيدي الكلمات ، خلعتُ رداء هدوئي ،دعوتُ حروف الأبجدية إلى اجتماع طارئ، لممتُ بعض هذه حروف لأصوغ منها كلمة غزل تليق بها.
هناك في أعماق ذاكرتي كانت ترقد كلمة لم أستخدمها ولو لمرة واحدة في حياتي. رتبّتُ مشاعري ،فتحتُ الحوار مع ذاكرتي، بحثتُ عن صوتي حتى أستطيع الكلام ، خلعتُ عني الصمت ، فقد حان الوقت لشفاهي أن تفطر بعد صوم طويل، حللت عقدة لساني وفككت أسره ، مزقت خيوط الخجل ، وجاء وقت التنفيذ وناديتُ شجاعتي كمن يتوثب لإلقاء نفسه إلى حوض السباحة ودفعها للقفز لأول مرة ،وقلتُ لها في همس نداء قلبي : أُحبّكِ..!
ذابت خجلاً أمام تلك الكلمة العذراء التي كانت تداعب أفكارها وتسكن قلبها .. تلك الكلمة التي يتغير بها مجرى الحياة.. تلك الكلمة أذابت مسامعها قبل إذابة جسدها.. لعلّي قلتُ لها كل شيء دفعة واحدة ..لعلّي قلتُ لها أكثر مما يجب أن أقول في لقاء واحد.. لعلّي استهلكتُ جميع أحرف الأبجدية ..لعلّي طرقتُ باب قلبها بعنف وقسوة ..لعلّي أفرغتُ كل حمولة حبي وأشواقي في قلبها ..لعلّي لفظتُ كلمة السرّ التي انتظرها جسدها طويلاً ؟! لو تدري اللغة العربية ماذا فعلت بنا أربعة أحرف “أحبك” من أبجديتها ؟! أجمل لحظة في الحب هي ما قبل الاعتراف به ، كيف تجعل ذلك الارتباك الأول يطول ، تلك الحالة من فقدان التوازن التي يتغير فيها نبضك ، يرتفع وينخفض أكثر من مرة في لحظة واحدة ، وأنت على مشارف كلمة واحدة من أربعة حروف ! نظرتْ إليّ نظرة حائرة لحظة نطق قلبي بالحكم ،أحسستُ أنها نفذت إلى أعماق نفسي، وتوهج شعاع الحب في عينيها ،وتدفق الدم إلى وجهها، وتورّد وجهها بحمرة كأشعة الشمس عند الغروب، إنه الحياء الذي يلون وجه العذارى، منعها حياؤها من التصريح والبوح بحبها والاعتراف به، وعجز لسانها عن النطق بأية كلمة، وصمتتْ ذلك الصمت الذي يحدث أثراً أكثر من الكلمات ، وغابتْ عن الوعي إثر لفحة حب فجائية، وأغمضتْ عينيها وهي تحاول أن تخفي شعورها وتغلبتْ مشاعرها على حيائها ، وسمحتْ لعينيها أن تكشف لي عن حبها وصدق عاطفتها نحوي، وحدثتني عمّا وراءهما من الأشواق واللهفة، فالعيون تفضح سرّ القلوب وهي نوافذ القلب والروح، بقيتْ صامتة وعيناها تتدفقان بعاطفتي نحوها، لم أحاول استنطاقها ، لم أقاطع صمتها ، عيناها تقولان كل شيء ،أمدتني بموجز عن نشرتها الجوية والعاطفية والعشقية!