خفقة القلب (5)
كانت تسكن بالقرب من بيتنا الذي يقع في بلدة بعيدة عن مدينة دمشق مقر إقامتي الدائمة ،بلدة تلد الحكايات ، تلك البلدة التي استوطنها الجمال بين الجبال الشاهقة في مواجهة السماء هي عاصمة قلبي ، كنتُ أزور تلك البلدة في فصل الصيف ، أعانقُ هواءها النقي بعيداً عن الملوثات التي تتكاثر في المدينة ، حيثُ الطبيعة الهادئة، ودنيا الخضرة المحيطة بمنازلها من جميع الجهات، وطهارة الأرض التي تنبع الأنهار من خصرها، وتنمو الأزهار على صدرها ، وتنام قبل أن ينام الليل ويستيقظ القمر، وفي الفجر يتمازج سحر الليل بتعب الصباح حيث القمر يسكب في فنجان الشمس قهوة الصباح ، فتستيقظ الشمس وترضع الأرض من حرارتها وتحتضنها بنورها ، ويتسلل الضياء إلى الطرقات يعانق حقول الذكريات والبيوت العتيقة التي تقف على جانبي الطريق ، والتي تفوح منها عبق الماضي ورائحة الزمن! تحبل بكل هذه الأجنة من البيوت المتلاصقة والمتعانقة في حنان وتعب ، وتكاد من طول العشرة تميل فوق بعضها بمحبة وشوق! وفي المساء تلقي شمس الغروب بظلالها الساحرة على الأشجار والأزهار التي ولدت من رحم الأرض ، ورضعت من أثدائها ، وفطمتها لتصير أمهات حنونات للثمار والبذور، ولا تغادرها إلا بعد أن تنام على ترنيمة العصافير والسواقي ، ووشوشات العشاق ، فتؤجج الأحاسيس والمشاعر ، أحببتُ تلك البلدة لأن فيها مخزوناً عاطفياً في ذاكرتي ، في تلك البلدة كل العائلات تعرف بعضها ، ويشاركون بعضهم بعضاً في الأفراح والأتراح، في تلك البلدة حيث يستوطن القمر، في تلك البلدة الجميلة التي تلهب الخيال تجمعت الذكريات، وتفتحت براعم الحب في قلبي وأورقت وأزهرت وأثمرت ، من صرّة تلك البلدة ولدت حبيبتي ، وفي بطنها عاشت ، وفي حنجرتها درست ! أعلم بأن الوصف هو استعادة لحظات من الحياة ، لكني لا أريد أن أوصفها أكثر، فأجمل ما فيها أنها ولدت فيها !! ليتني أجعل القارئ يتجول معي في أزقة وشوارع تلك البلدة، وفي أرصفتها المزدحمة بأقدام الأعشاب، وأرجل العصافير، ويراها بعين اليقين ، فليس أحب إليّ من التطوع باصطحابه في جولة قصيرة تعطيه فكرة عابرة عن المكان .
أحياناً كثيرة نعشق مكاناً ليس لجماله ولكن لأنه جمعنا بمن نحب، دلوني على انسان لا يتبع قلبه إلى أقاصي الأرض إذا كان له فيها حبيبة!!
لا يعرف المرء كيف تقع المصادفة ، يكون حافي القلب وخالي الذهن من أي شيء ، وإذا المصادفة تنبت كزهرة في كفه ، لم أكن أعلم أنه في ذلك اليوم سيشرق النور في ظلمة حياتي ،كانت المفاجأة أكبر من أن أستوعبها ،فرحة ارتعشت لها كل جوارحي، استيقظتْ لها كل عواطفي بعد أن كانت حياتي خالية من أية مشاعر عاطفية، وشعرتُ أن الزمان يبتسم لي ، قلبي نبّأني بأن أمراً ما يخصني سوف يحصل، وحدثني بأن موجة من الفرح ستداهمني وتنزع ثوب الحزن عني، وأخرجُ من عالم الشقاء إلى عالم أشدّ فرحاً ،فهناك لحظات لا يعرف الإنسان كيف تأتي ومتى تأتي، لكن احساساً غامضاً ينبئ بها !عندما نفقد عنصر المفاجأة وعنصر الغيب في حياتنا تصبح الحياة بلا معنى ! عندما نراجع حياتنا نجد أن أجمل ما حدث لنا كان مصادفة ! كنتُ غير قادر على استيعاب ما يحدث لي في تلك اللحظات.. الكون يستيقظُ بديعاً على غير عادته ،قطرات الندى تهبط من السماء ، الأشجارُ تنظر إلى الشمس تارة ، وتارة أخرى تتهامس مع بعضها ، فإذا بالشمس قد تورّد وجهها ، وإذا بها في غمرة خجلها ! كل شيء جميل حولي : الطريق، الأشجار ، الهواء ، الشمس ، البشر ، وكل الأشياء… رائحة البشر والشجر والورد تملأ الجو بعطر جعل الدنيا تبدو أحلى من واقعها، كل الطرقات إلى الفرح سالكة بسهولة، خلتُ أن الدنيا ابتسمت من حولي ، وأن الطبيعة تزينت من أجلي ، وأن الأرض لها يوم تحب به، فقد عبّرتْ عن مشاعري بشكل بارع ، كان ذلك في يوم سماؤه صافية، شمسه مشرقة بالغة السخاء ، تمدّ أشعة خيوطها لتداعب وجه الأرض وتدفئ ثناياها كأم حنون تمسح جبين الصباح ليبتسم ، فتبعث دفئاً في جوّ لا تزال فيه لدغة من البرد، صفقتْ أوراق الشجر، اخضرّتْ أكثر، انحنتْ الورود ومالتْ الأغصان إلى الأرض، الربيع أمطر الحقول بزهوره البرية وتفتحتْ خزائن العطر والأزهار! أحسستُ أن للأشياء روحا ً في لحظات…كل الأشياء الجميلة تتحقق بآن واحد ، فالشيء الذي لا يمكن التعبير عنه بكلمات ، لا يمكن إدراكه إلا بالصمت ، هكذا كانت مشاعري حين رأيتها لأول مرة ! فجأة خطفتني من أفكاري ، وفقدتُ السيطرة على كل حواسي ، لا أدري ما الذي وضع تلك الفتاة في مرمى بصري .. أمطرتها السماء.. هي هدية السماء للأرض .. هي هدية العين والأذن والقلب والروح ! لمعتْ فجأة كالبرق يمزق رداء السماء ،قمر تخلى عن سماه وتمشى على الرصيف ، فتاة منتصبة أمامي كعمود نور، نظرتُ إليها وسرقتُ نظرة من عينيها دون أن أنتظر موعداً من القلب! استيقظ قلبي وتحرك نحوها كما تتحرك الراحتان نحو جمرة في ليلة شتاء باردة ، ابتسم الأمل ورحت أملأ عينيّ من سمرتها الصافية، والتقت عينانا لحظة خاطفة وشعرت بالارتباك ، وسرعان ما انتقلت إليها عدوى ارتباكي! شلّت المفاجأة تفكيري ، وشعرتُ باضطراب قلبي منذ اصطدام العيون الأول ،كوني لم أخاطب عيون فتاة من قبل، وخيّل إليّ أنني أستعمل عينيّ لأول مرة!! إنها جمالية اللقاء الأول ،والقبلة الأولى للعيون ،ونبضة الحب الأولى للقلب، ما أجمل روعة البدايات وأوائل الأشياء الرائعة التي تحدث للمرة الأولى ، وتظل عالقة في الذاكرة ، كفرحة أم تطبع القبلة الأولى على جبين مولودها الأول الذي طال انتظاره ، كسعادة ضرير يرى النور لأول مرة بعد ظلام دامس ، كطعم الرشفة الأولى من شراب حلو المذاق بعد صيام طويل ، كان شعوراً لا يُنسى ، فما زال في قلبي يخفق كلما تذكرت ذلك الشعور الغريب الذي خطف قلبي ، والمقيم في مخيلتي رافضاً لكل محاولات النسيان،أحب بداية كل الأشياء… أحب الحبو : أول المشي ، أحب الباكورة : أول الفواكه ،أحب الصبح : أول النهار، أحب الغسق :أول الليل ،أحب النعاس : أول النوم ، أحب البكر : أول المولود ، أحب اللبأ : أول الحليب ، أحب الابتسامة : أول اللقاء ، وأحب العشق : أول الحب! حين وقعت عيناي عليها خفق قلبي لها ، ووقعتُ في حبها ، وسرعان ما انهارت كل دفاعاتي تحت وقع نظراتها ، سقطت عيناي على وجهها وبسرعة أرسلتا صورتها ليتم تخزينها في حجرة الحب في عقلي الذي تواطأ مع كل ما حدث ، فأرسل صورة طبق الأصل لوزارة العواطف والعشق في قلبي لتخزينها فيه، هذه النظرة هي نوع عميق جداً من التخاطب بين البشر دون تفكير، بالإلهام ودون تفكير ، بالاتصال المباشر على الهواء ، وبدون وساطة الكلام ! كثيراً ما سمعتُ أن الوقوع في الحب من النظرة الأولى هو نوع من الوهم ولا وجود له إلا في خيال الأدباء والشعراء ، وسمعتُ كلمات الحب تتردد كثيراً على الألسنة ، لكن ما رأيته كان بعيداً كل البعد عن كل ما سمعته، فهو فريد ومختلف، كالرعد الذي يفجر الينابيع من بطن الأرض ليروي الحقول والبساتين..كل البدايات جميلة في الحب ، أحسستُ بنبض قلبها ، وشعرتُ بروحها تغادر مائدة جسدها وتتلبس جسدي !