خمسة باحثون يؤصلون مفهوم الثقافة الشعبية
يعنى هذا الكتاب “الكرنفال – في الثقافة الشعبية” بالبحث عن تأصيل مفهوم “الثقافة الشعبية” ودراسة تجلياتها عبر دراسات اختارتها معدته ومترجمته الباحثة العراقية د.خالدة حامد بعناية فائقة، ابتداء بسؤال جون ستوري: ما الثقافة الشعبية؟ ومقال ميخائيل باختين عن تأثير الطقوس الرومانية، مروراً بدراسة كليفورد غيرتز عن صراع الديكة في بالي، ثم الأنثربولوجيا الكولونيالية لعيد الأضحى في مقالة عبدالله حمودي (الأنثربولوجيا الكولونيالية لعيد الأضحى واحتفالات التقنّع “بحثاً عن دين ضائع”) المهمة جدا، وانتهاء بالبحث عمّا يجعل من مسلسلٍ تلفزيونيّ مندرجاً ضمن الثقافة الشعبية في بحث إين آنغ المبدع عن أيديولوجيا الثقافة الجماهيرية في مسلسل دالاس.
وقد أضاء الباحث أحمد عبدالحسين في مقدمته التساؤلية للكتاب الصادر عن منشورات المتوسط – إيطاليا “ما الشعبي في الثقافة” بعض الإشكاليات التي واجهت، ولا تزال، دراسة الثقافة الشعبية عربياً. ليرسم لنا الكتاب خارطة ذات امتداد زمانيّ ومكانيّ تتيح للقارئ فرصة التعرّف على الشعبيّ في ثقافة العالم وليكون عتبة لا بدّ منها لمعرفة ثقافتنا الشعبية العربية.
بدأ عبدالحسين متسائلا “ما الذي يجعل من ثقافةٍ ما شعبيّة؟ ما هو “الشعبيّ” الذي يضاف إلى الثقافة ليجعلها مفترقة عن سواها؟ وبإزاء أيّ نمطٍ آخر من أنماط الثقافة تقف هذه “الثقافة الشعبية” ليكون لها ثمة حضور وتعريف؟” وقال “في الفضاء الثقافيّ العربيّ غالباً ما صيغ مصطلح “الثقافة الشعبية” ليلائم أحد خيارين: أولهما ما يتماهى مع الفولكلور والتراث، الأصيل منه أو ما يستعاد بقصد إحيائه، وثانيهما الأدب الشفاهيّ، ومثاله الأجلى الشعر الشعبيّ.. نلحظ في الخيار الأول إن ما يجعل من نتاج ثقافيّ ما شعبياً هو محض زمنيّته، قِدمه النسبيّ الذي يجعله نتاجَ فترة سبقتْ “أو واكبتْ” نشوء الدولة، أي قبل أن تفعل المؤسسات التربوية والتعليمية والثقافية فعلها في تكوين ثقافة “رسميّة”.
أما الخيار الثاني فيستمدّ خصوصيته من جنبة لغويةٍ، مؤداها الفرق بين الشفاهيّ والمكتوب، بين اللهجة و”اللغة العربية الفصحى”.
وأوضح “رغم أننا هنا بإزاء مشكلة مفاهيميّة مؤداها أن “الثقافة الشعبية” قلما أطلقت لدينا على مقابلها الحرفيّ باللغة الانكليزية (Popular Culture) الذي يستبطن معنى الثقافة الشائعة أو الأكثر انتشاراً أو “ثقافة الجمهور” أي كلّ ما يقف في مواجهة ثقافة أخرى مضادّة هي الثقافة الرسمية أو “الراقية”، إلا أن شيوع الاصطلاح أعفى باحثين كثراً من مهمة إيجاد اصطلاح آخر للتفريق بين الشعبيّ بمعنى الشائع، والشعبيّ بمعناه الفولكلوريّ، فمعلومٌ ان ثقافة فولكلورية ليست بالضرورة هي الثقافة التي يتداول انتاجها وتلقّيها السوادُ الأعظم من الجمهور. هذه المشكلة المفاهيمية تنبّه له بعض الباحثين ومنهم الباحث المصريّ محمد الجوهريّ الذي أقرّ بـ”عدم وجود مصطلح مشابه لـ Popular Culture في اللغة العربية”.
وأضاف “في ثقافتنا العربية فان الحدّين اللذين أشرنا إليهما آنفاً، اللغوي والزمنيّ معاً، اللذان يفصلان بين “ثقافتين” أحدهما شعبية والأخرى “رسميّة” أو “راقية”، آخذانِ بالذوبان والاضمحلال بشكل مضطرد بسبب طبيعة الوسائط الحديثة التي يتم تداول النتاج الثقافيّ فيها. فالقنوات الفضائية والوسائط المتعددة (الملتيميديا) تكاد تردم الهوّة التي كانت قائمة بين نوعي الثقافة هذين، على الرغم من تأكيد باحثين كثر على أن تقسيماً كهذا لا يعدو كونه تقسيماً سياسياً ليس إلا، دون أن يكون للثقافة نفسها دخل في تكوينه.
نزعم ان تغييرات عميقة حدثتْ في بنيتنا الاجتماعية من قبيل تقلّص الهوّة بين ثقافتي الريف والمدينة، تؤازرها حقيقة ان النتاج الثقافيّ المسمى راقياً (كالموسيقى الكلاسيكية والروايات والشعر الحديث والفن التشكيلي بأنواعه) صار تلقّيه متاحاً بشكل واسع، ونرى ان تلك التغييرات أصبحتْ محرضاً على إعادة التفكير في ما هو شعبيّ، والشكّ في مسلّماتنا النظرية التي ما زالتْ ترسم بين الثقافتين حدوداً غليظة”.
ورأى عبدالحسين أن الكتاب محاولة لإلقاء نظرة بانورامية على مفهوم الثقافة الشعبية، لذا فإن أهميته تأتي السعة في الرؤية التي يشتمل عليها، ومن الثقل المعرفيّ الذي يتمتع به الباحثون والمفكرون الذين انتُقيتْ مقالاتهم، واللغة العربية الصافية التي أدّتْ بها المترجمة عملها على أكمل وجه، وتتأكد أهمية هذا الكتاب إذا ما عرفنا كم هي شحيحة الكتبُ المترجَمة في هذا الميدان البحثيّ فائق الأهمية.
الباحث البريطاني جون ستوري صاحب أحد أهم الكتب التي قدمت مدخلاً واضحاً ومتماسكاً للنظرية الثقافية ومصدراً شاملاً لفهم مناهج الدراسات الثقافية والثقافة الشعبية، انطلقت دراسته”ما الثقافة الشعبية؟” من بيان بعض الملامح العامة للجدل الذي أثارته دراسة الثقافة الشعبية قبل أن يسهب بدراسة مختلف الطرق التي تم بها تعريف الثقافة الشعبية، وتحليلها. ليقوم بإجراء مسح للمشهد المفهومي للثقافة الشعبية، وهذه مهمة ـ وفقا له ـ كؤود في أوجه عدة، إذ مثلما يشير توني بينيت فإن”مفهوم الثقافة الشعبية – كما يبدو – عديم الجدوى في النهاية؛ فهو البوتقة التي تنصهر فيها المعاني المشوّشة والمتناقضة التي لها القدرة على تضليل البحث عبر عدد من الأزقة النظرية المسدودة”. وينبع جزء من الصعوبة من الآخرية الضمنية التي تكون “غائبة/ حاضرة” دائماً حينما نستعمل مصطلح الثقافة الشعبية.
في دراسته “الكرنفالُ والكرنفاليّ” يلفت ميخائيل باختين إلى أن “الكرنفال مهرجان، يخلو من مهنة التمثيل، ويخلو من الانقسام إلى مؤدّين ونظّارة؛ وفيه يكون كل فرد مشاركاً فاعلاً، وله الحرية في أن يفعل ما يحلو له، بصدد الفعل الكرنفالي. المهرجان لا مُفكَّر فيه. إنه – بدقّة أكبر – لا يُؤدَّى؛ فمشاركوه يَحيون فيه، يَحيَون بقوانينه، ما دامت تلك القوانين فاعلة. هذا يعني – بعبارة أخرى – أنهم يَحيَون حياة كرنفالية. ولأن الحياة الكرنفالية مُستمدَّة من روتينها المعتاد، فإنها تكون – في بعض أوجهها – حياة “مقلوبة بطناً لظهر”؛ أي أنها “الجانب المعكوس من العالم”.
أما كليفورد غيرتز فأوضح في دراسته “نزال الديكة في بالي بوصفه لعبة” رؤية شديدة الخصوصية لنزال الديكة جاء فيها “تجري نزالات الديكة في حلقة، قطرها خمسون قدماً مربعاً. تبدأ قبيل العصر عادة، وتستمر لثلاث أو أربع ساعات حتّى الغروب. يتألف برنامج “اللعب” من تسع أو عشر مباريات منفصلة. وتكون كل مباراة مشابهة لغيرها تماماً من حيث النمط العام: إذ لا توجد مباراة رئيسة، وليس ثمّة صلة بين المباريات الفردية، ولا تتباين في طريقة تنسيقها، وكل مباراة تُرتَّب على أساس خاص تماماً.
وبعد أن ينتهي النزال، وتزول مخلفاته الانفعالية – تُدفَع المراهنات، وتُطلق اللعنات، وتُمتلك الجثث – ينسلّ سبعة، ثمانية وربما عشرة رجال، بتهاون نحو الحلقة مع الديك، ساعين مع ديكهم لإيجاد خصم منطقي له. إن هذه العملية – التي نادراً ما تستغرق أقل من عشر دقائق، بل غالباً ما تستلزم وقتا أطول – تجري بطريقة غير مباشرة، بل خفية حتّى. والذين لا يشتركون بها – بشكل مباشر – لا يمنحونها أكثر من انتباه متنكر، جانبي؛ أما مَن يتورط فيها، بحَرَج، فيحاول التظاهر – إلى حدّ ما – بأن الأمر برمته، لا يحدث البتة”.
وجاء في دراسة الباحث المغربي عبدالله حمودي “الأنثربولوجيا الكولونيالية لعيد الأضحى واحتفالات التقنّع “بحثاً عن دين ضائع” أنه في المغرب تقع معظم هذه الأحداث بين عيد الأضحى والاحتفال بالسنة الهجرية الجديدة. وبحسب ما نجده في اللهجة العربية، تطلق على هذين الاحتفالين تسمية “العيد الكبير” و”عاشور” على التوالي. في حين أن تسمية «عاشور» موجودة عند البربر، إلا انهم يطلقون اسم “فسقة” faska على عيد الأضحى.
وتكون هذه الفترة مقدسة للغاية في التقويم الإسلامي. ونظراً إلى أن هذه التقويم يتبع النظام القمري، كان لا بدّ من جعله يتماشى مع التقويم اليوليوسي (أو الفلاحي filahi)، الذي نجده في شمال أفريقيا يتحكم بالأنشطة الزراعية. ويتميز هذان الشهران، اللذان تطلق عليهما تسمية “ذو الحجة” و”عاشوراء” في التقويم الإسلامي، بالحجّ إلى مكة، وعيد الأضحى، والاحتفال بالسنة الهجرية الجديدة. وتحدث جميع هذه الطقوس في مدة أربعين يوماً (بين أول أيام ذي الحجة والعاشر من عاشوراء)، وتكون مشحونة جداً بالمعاني الدينية التي تبلغ أوجها في الحج إلى المشاهد الإسلامية المقدسة وعيد الأضحى وتنتهي مع الاحتفال بالسنة الهجرية الجديدة.. تجري المواكب واحتفالات التقنّع بين عيد الأضحى والاحتفال بالسنة الهجرية الجديدة، تحديداً. وغالباً ما تتزامن مع عيد الأضحى في الريف، بينما ترتبط في المدن بالسنة الهجرية الجديدة ارتباطاً وثيقاً.
ميدل ايست أونلاين