د. هـ. لورانس ودهشة القصائد
لعله من المعروف في الأوساط الأدبية بشهرته كروائي واشتهر باسم د. ه. لورنس (1885-1930) لكنه في مقام آخر امتاز بقصائد شعرية لا تقل إبداعا عن رواياته، إلى جانب غزارة إنتاجه المسرحي والشعري والنقدي، وهو من أهم أدباء مطلع القرن العشرين، وأكثرهم إسهاماً في التطور الذي شهدته الحداثة في أوروبا، حيث شارك في تلك الحركة التي أثمرت الشعر الجديد، وهو ما يطلق عليه “الشعر الحر” أو “النظم الحر”؛ حيث أهم عنصر من عناصر التغيير الذي طرأ على النظم في تلك الآونة “التحرر” من القافية، وعدم الإلتزام بالأشكال التقليدية للقصائد التي توارثها الإنسان عبر العصور.
سار لورنس في بداية حياته على مسار تراث الشعر الرومانسي الإنجليزي في مطلع القرن التاسع عشر، ثم ما لبث أن تمرد عليه، وقدم رؤاه الخاصة في الرواية أولاً ثم في الشعر، لكن هذا التحول لم يعجب الجمهور، فقد كان في كتابته من الجرأة التي بدت غير مألوفة للقراء في ذاك العصر. وتعرض لورنس لمنع نشر رواياته وأشعاره، كما ارتبط في فترة ما بمدرسة التصويريين التي كان يرعاها عزرا باوند، وايمي لويل، وهيلدا دوليتل، وت. س. إليوت، ثم سرعان ما شقّ لنفسه طريقاً مستقلاً وإن لم يخرج كثيراً على مبادئ الحداثية في العقود الأولى من القرن العشرين.
ثورة فنية
يمكن اعتبار د. ه. اتش لورانس من الذين دعوا إلى ثورة فنية، لكن من سوء حظه أن مسار الفكر والأدب في أوروبا حينذاك لم يكن مواتياً لثورته الفنية وفكره الذي كان مغالياً في التحرر. تشكلت مدرسة النقد الجديد في أعقاب الحرب العالمية الثانية، وكانت تدعو أساساً إلى النظر في النصوص الأدبية من حيث إنها نصوص مستقلة عن المذاهب الفكرية المختلفة من اجتماعية وسياسية وأخلاقية ودينية، وتدعو خصوصاً إلى استقلال العمل الفني عن شخصية الفنان، وكان من الطبيعي أن تجد أن مذهب لورنس المستغرق في ذاته وعلاقة الرجل بالمرأة مذهب ينبغي رفضه ونبذه.
ولعل أبرز ما تعرض له لورنس من هجوم مما ينتمي إلى النقد النسوي، إذ وجهت الناقدات النسويات نقدا لاذعا إلى وجهة النظر الذكورية التي يتخذها لورنس، خصوصاً فيما يتعلق بتركيزه على المرأة باعتبارها جسدا، وذلك ما كان قادة الحركة النسوية يحاولن تعديله بتبيان القصور في هذه النظرة وضرورة المساواة بين الجنسين في كل شيء.
لم يكن هذا هو النقد الوحيد فقط الذي تعرض له لورنس فقد هاجمه أيضا دعاة الديمقراطية والاشتراكية (أو المذهب التقدمي) بسبب إيمانه الراسخ بالفرد، وعدائه لما كان يراه آفة الحضارة الحديثة، وهو نظام العمل على نطاق واسع في ظل الثورة التكنولوجية، فكان يحتقر من يسميهم الأجراء، أي من يعملون لقاء أجر معين لا لأنهم يحبون ما يعملونه، فنظام الأجور كان في نظره هادماً لإنسانية الإنسان. وهكذا كان مسار الفكر على امتداد القرن العشرين من العوامل التي منعت شعر لورنس بصفة خاصة من احتلال مكانته اللائقة به.
لكن بفعل التحولات الفكرية، ومررور الزمن وبعد مرور عقدين أو ثلاثة من نشر ديوانه الكامل في عام 1964، عاد النقاد إلى النظر في شعر هذا الشاعر الذي سار ضد التيار، وبدأ الأساتذة والنقاد ينتقلون من رواياته (التي تحول بعضها إلى أفلام) إلى شعره، فأخذ بعضهم على عاتقه نشر ما لم ينشر في حياته، أو إعادة نشره مع تعليقات تلقي الضوء على شعره الذي عانى التجاهل طويلاً. خاصة وأن لورنس تميز بغزارة الإنتاج الشعري الذي لا يمكن إغفال مادته في تناولها لروح الستينات، إلى جانب أن كل ما كتبه لورنس في شعره مستقى بصدق من مشاعره وأفكاره التي يعتز بها.
لكن نقاد قصائده لديهم رؤية أن دواوين لورانس كانت في حاجة إلى مراجعة منه بحيث تتعرض للحذف والتشذب فلا يبقي إلا على القصائد الممتازة فعلا، في حين أنه لم يكن يقوم بهذه المهمة أبدا اعتزازا منه بإبداعه الشعري.
وفي الديوان الذي بين أيدينا “المختار من شعر د. هـ أتش لورانس” نجد عدداً محدوداً من القصائد يُمثل تقريبا عُشر إنتاجه الشعري، قام باختيار القصائد وترجمتها وتنقيحها د. محمد عناني، الذي يقول في مقدمته: “ولما وجدت أن الشاعر رتب قصائده في الديوان الكامل ترتيباً زمنياً، أي وفق تاريخ نشر هذه القصائد أو تأليفها، فقد احتفظت بهذا الترتيب. ولم أشأ أن أسترسل في المقدمة لمناقشة قضايا لا تفيد القارئ أو لا تساعده على تذوق الشعر، بل اقتصرت على تقديم أحدث المداخل النقدية لأدبه، وهي التي شاعت في العقود الثلاثة الأخيرة، وحصرت دراستي فيها حتى تكون المقدمة ابنة هذا العصر حقاً وصدقاً”.
ينقسم الديوان إلى قسمين رئيسيين، القسم الأول يضم القصائد المقفاة، والثاني القصائد غير المقفاة، فأما القصائد المقفاة فتنتمي إلى دواوينه الأربعة الأولى، وفيها ما يدل على مسلكه الرومانسي والمختارات تقدم في هذا القسم تيار شعره الرئيسي في تلك الفترة.
والقسم الثاني ينقسم إلى أربعة أجزاء: الجزء الأول (أ) يقدم قصائده الذاتية المغرقة في الذاتية، والجرزء الثاني (ب) يقدم عكس ذلك تماماً ألا وهو نظرات الشاعر في فلسفات العصر وكراهيته للبلشفية ولغلبة التكنولوجيا على الحياة الحديثة، ممثلة في أميركا، وفيها يبدو تأثير الوجودية واضحاً. والجزء الثالث (ج) يقدم مختارات من مقطوعاته الساخرة أو الفكرية وهي التي نشرت في جزئين، والجزء الرابع (د) يتضمن أهم قصائده الأخيرة.
يذكر أن ديوان “المختار من شعر د. ه أتش لورانس”، صدر عن الهيئة المصرية العامة للكتاب، وقام د. محمد عناني بترجمة وتقديم الديوان.
ميدل إيست أونلاين