دراسات وشهادات تتبع ‘نجيب محفوظ شرقا وغربا’
تسعة عشر كاتبًا من بلاد عربية وأجنبية يشاركون في كتاب “نجيب محفوظ شرقا وغربا” الذي أعدَّه الكاتبان مصطفى عبدالله وشريف مليكة، وشارك في تحريره ومراجعته الكاتب أحمد كمال زكي.
وقع الكتاب في حوالي أربعمائة صفحة وصدر عن دار غراب للنشر والتوزيع بالقاهرة، وشارك فيه من الكتاب الأجانب الذي سبق أن قدَّموا ترجمات محفوظ بالإنكليزية، كل من روجر آلان وريموند ستوك.
يضم الكتاب مجموعة من الدراسات والشهادات المهمة التي تدور حول نجيب محفوظ الكاتب والإنسان، ذلك أن عميد الرواية العربية لم يكن كاتبا عاديا، بل كان كاتبا فذا، وكان إخلاصه لمحليته ولقضايا وطنه سبيلا لانطلاقه عالميا، فأصبح أدبه عاكسا للأدب العربي كافة، وليس الأدب المصري فحسب، وكان ولا يزال أول كاتب عربي يتوَّج بجائزة نوبل للآداب عام 1988 وهي الجائزة – التي لم تزل – الأكبر والأرقى في العالم.
يرى د. أحمد درويش في تقديمه للكتاب أن هذه الكتابات – التي احتواها الكتاب – تؤكد في مجملها المعنى الذي قاله محفوظ نفسه في رثاء صديقه الفنان الكبير محمد عبدالوهاب: “لقد أخذ الموت منك ما استطاع، وترك لنا ما لا يمكن للموت أن يأخذه وهو روح الفن العظيم”. ويؤكد على أن الكتابة بالنسبة لمحفوظ كانت “نفَس الحياة”.
ويتحدث د. صبري حافظ عن جائزة نوبل وجدليات العلاقة مع الغرب، والأدب العربي وجمهورية الأدب العالمية، مؤكدا أن ترجمة ثلاثية محفوظ الشهيرة إلى الفرنسية هي التي جلبت له نوبل، مشيرا إلى أن الأدب العربي أكثر توفيقا في هذه اللغة، وإن كانت اللغة الفرنسية أقل أهمية من حيث توفير النص لقراء العالم الأوسع من اللغة الإنجليزية. والدليل على ذلك أن “الثلاثية” باعت في طبعتها الإنجليزية أكثر من نصف مليون نسخة. وأن تلك المبيعات تجاوزت مبيعات كل رواياته مجتمعة في اللغة العربية.
وعن اهتمام محفوظ بموضوع الترجمة، يوضح حافظ أن صاحب نوبل لم يسعَ إلى الترجمة ولم ينشغل بها، فقد كان همه الأساسي وربما الوحيد – وهذه من أهم فضائله – هو الكتابة لقارئ اللغة التي يكتب بها، والتعبير عن واقعه وصبواته ورؤاه والفاعلية في مناخه الثقافي.
أما د. حسين حمودة فيتناول “العتبة” في روايات نجيب محفوظ على المستويين الحرفي والمجازي، حيث تتردد مفردة “العتبة” في روايات محفوظ وتتصل بشخصيات متنوعة وبمواقف متباينة وسياقات مختلفة، ولكنها – في هذا كله – لا تنفصل عن دلالات تقود إلى معنى الاجتياز أو محاولته أو العجز عنه.
وعند رواية “المرايا” باعتبارها رواية سيرذاتية يتوقف الناقد التونسي د. محمد آيت ميهوب، مؤكدا أنه لم تثُر أي رواية من روايات محفوظ السبع والثلاثين ما أثارته “المرايا” على مستوى التلقي والتأويل من إشكالات واختلافات بين النقاد والدارسين طبعت التعامل التداولي مع النص، ووسمت قراءته بالتعدد والتردد والتناقض أيضا. موضحا أن دراسته تطمح إلى أن تفتح بابًا جديدًا لدراسة أجناسية “المرايا”، وعلى ذلك فهو يتناول القضية الأجناسية في “المرايا”، متسائلا: ما الرواية السيرذاتية”؟ مجيبا أنها ليست سيرة ذاتية. وهنا يتوقف ميهوب عند طفولة نجيب محفوظ، ودراسته في الجامعة، ووظيفته، وأصدقائه ومعارفه، والتناص الذاتي في أعماله، والمشروع السيرذاتي عنده، ويستخلص من ذلك كله أن رواية “المرايا” نص متميز بين قائمة روايات نجيب محفوظ الأخرى، متميز بنمط السرد المتشظي الذي اختاره، ومتميز بالتفات محفوظ بعد توقف دام خمس سنوات عن الكتابة، وعقب نكسة 1967 إلى ذاته يتأمل ما انقضى من سنوات عمره.
وعن الملامح الفكرية في روايات نجيب محفوظ يتحدث الناقد الجزائري د. عبدالقادر فيدوح، مشيرا إلى كون الفكر وعاء للرواية، موضحا أن نجيب محفوظ أخرج الرواية العربية من عزلتها بعد أن خاطب المتلقي من أجل إعادة بناء الوعي العربي، متناولا البعد الوجودي في أدب محفوظ، مركزا على الوعي المتباين في أعماله.
الناقد المصري د. عبدالبديع عبدالله يتحدث عن ثلاث طفرات في الفن عند نجيب محفوظ، ويقصد الثلاثية التاريخية (عبث الأقدار، ورادوبيس، وكفاح طيبة) التي بدأ بها محفوظ إنتاجه الأدبي، وأسماها المرحلة الرومانسية أو “الرومانسية التاريخية”، ثم المرحلة الواقعية التي استهلها محفوظ برواية “القاهرة الجديدة” عام 1945، ثم المرحلة المفصلية التي كتب فيها واحدا من أهم أعماله من الناحية الموضوعية، هو الرواية الكونية “أولاد حارتنا” التي أثارت ضجة كبيرة وغضبًا كثيرا، ولا تزال.
وعن الشخصيات النسائية في أدب نجيب محفوظ تكتب الباحثة د. فوزية العشماوي، موضحة أن نجيب محفوظ أعطى لكل شخصية نسائية – في أعماله – وظيفة هيكلية، ولكنه لم يعط للمرأة في أي رواية من رواياته دور البطولة المطلقة، وهي تقدم تحليلا مختصرا لثلاث من أهم الشخصيات النسائية في أدب نجيب محفوظ، وهي: نفيسة في “بداية ونهاية” 1949، ونور في “اللص والكلاب” 1961، وزهرة في “ميرامار” 1967.
الكاتب التونسي أبو بكر العيادي يتحدث في هذا الكتاب عن علاقته بأدب نجيب محفوظ، بينما كتب الناقد المصري د. أحمد درويش عن استلهام التراث الديني في رواية “أولاد حارتنا” ويرى أنها كانت بداية ما يمكن أن يسمى بالمرحلة الميتافيزيقية في روايات محفوظ، والتي تمتد حتى رواية “ثرثرة فوق النيل” 1966.
الناقد د. أحمد حسن صبرة يتذكر صورة مع نجيب محفوظ ومقالا عنه، أما الصورة فقد التقطها باحث في جامعة أميركية أعطته منحة تفرغ لمدة عام يلازم فيها نجيب محفوظ منذ استيقاظه حتى نومه، ثم يكتب كتابا حول كل ما عايشه مع محفوظ، وأما المكان فهو حديقة فندق سان استفانو على شاطئ الإسكندرية، وأما الزمان فهو صيف 1994 قبل شهور قليلة من محاولة قتله على يد شاب من الجماعات الإسلامية. أما المقال فهو عن الرواية المعضلة “أولاد حارتنا” والتي لم تعجب ناقدنا أحمد حسن صبرة، حيث وجد فيها ثغرات روائية أفقدتها تماسكها الداخلي، وجعلتها تحتل مكانة أقل من أعمال محفوظ التي كتبها في الستينيات، ولكنها مع ذلك تعد مثالا جيدا لسوء الفهم الذي تترتب عليه نتائج خطيرة.
وعن الرحيل عن دار الوحي وأمل العودة إليها يكتب الناقد د. السيد فضل عن رواية “رحلة ابن فطومة” التي جاءت سعيا وبحثا عن الحرية والكرامة والسلام، وتقدم – رغم بنائها المدهش – تقريرا يوشك أن يكون إدانة لدار الوحي التي يسميها محفوظ أحيانا باسمها الصريح دار الإسلام، حيث تتم أكبر خيانة للوحي من قبل المسلمين “ألا لعنة الله على هذه الدار الزائفة”.
وعن الرواية نفسها تكتب الناقدة د. رشا صالح دراستها – التي تنطلق من رؤية المنهج البنيوي – تحت عنوان “من تفريغ الشكل إلى تشكيل الفراغ”، فتتوقف عند عتبات النص، ودلالات أسماء الأماكن والأعلام في رحلة ابن فطومة، ثم تتناول بنية الهيكل السردي الزماني للرحلة، والنمو السردي وأنماط بنيتي المقابلة والتضاد، والعمران والكساء في مقابل الفراغ والعراء، وتتأمل عبارة “ديننا عظيم وحياتنا وثنية”. وتخلص إلى أن “رحلة ابن فطومة” هي المعادل الموضوعي للكشف عن الحقيقة، حقيقة روح الإسلام وجوهره بعيدا عن مظاهره السطحية، وطوال الرحلة يتجسَّد جانب من جوانب المعرفة يظهر في كل دار، ولا يكتمل إلا في النهاية.
الشاعر والكاتب الصحفي أحمد كمال زكي ينتقل إلى موضوع طريف في حياة نجيب محفوظ، وهو الجانب الكروي في حياة صاحب “السمان والخريف” وذلك من خلال مقال يحمل عنوان “الحرِّيف وأسرع هداف في زمانه”.
بينما يتناول الروائي ناصر عراق الأعمال السينمائية لنجيب محفوظ “العائش في محراب السينما المصرية” حيث أدرك محفوظ طريقه إلى العمل في صناعة الأفلام قبل أن تفطن السينما نفسها إلى رواياته المدهشة، فتُقدِم على إنتاجها وإخراجها، ومع ذلك علينا أن نسأل: هل أنصفت السينما أدب نجيب محفوظ، أم أنها أظهرته بصورة لا تليق جعلت العامة ترى صاحب نوبل مجرد كاتب متواضع يروِّج للرذيلة؟
وعلى ذلك يتوقف عراق عند فيلم “المنتقم” باكورة السيناريوهات في العهد الملكي، و”ريا وسكينة” الذي يفتتح عهد ثورة يوليو، مرورا بعدد آخر من أفلام محفوظ مثل “جعلوني مجرما” و”درب المهابيل” و”مجرم في أجازة”، و”الطريق المسدود”، و”جميلة”، و”بين السماء والأرض” وغيرها من الأفلام.
وعن قضية الكتابة عند عميد الرواية يتوقف أحمد فضل شبلول، مستعرضًا آراء محفوظ نفسه في هذه القضية من خلال الرجوع إلى عدد كبير من حوارات صاحب “ميرامار” في بعض الصحف والمجلات العربية.
أما الكاتب والمفكر د. ماجد موريس إبراهيم فيكتب عن “الحس الصوفي عند نجيب محفوظ” من خلال البحث في دائرة المكان، والبحث في دائرة الزمان، وأين توجد الحقيقة؟
ويكتب سامي البحيري عن “حضرة المحترم العائش في الحقيقة”، ويتحدث محمود الشنواني عن أسرار التركيبة المحفوظية، التي تلخصها عبارته: “بنيت حياتي على الحب؛ حب الحياة وحب الناس وحب العمل، وأخيرا حب الموت”.
أما الروائي والقاص د. شريف مليكة فيكتب تحت عنوان “الإنسان المهول .. صاحب القلم السخي” متذكرا لقاءاته مع محفوظ أثناء أجازاته من عمله بجامعة جونز هوبكنز بأمريكا، مختتما مقاله بكلمات من نور وردت في مدخل “ملحمة الحرافيش” يقول فيها محفوظ: “في ظلمة الفجر العاشقة، في الممر العابر بين الموت والحياة، على مرأى من النجوم الساهرة، على مسمع من الأناشيد البهيجة الغامضة، طرحت مناجاة متجسدة للمعاناة والمسرَّات الموعودة لحارتنا”.
ويختتم الكاتب الصحفي مصطفى عبدالله الجزء العربي في كتاب “نجيب محفوظ شرقا وغربا” بمقال يحمل عنوان “اعترافات فيلسوف الرواية العربية” مؤكدا أن أجواء الإسكندرية الصافية انعكست على مزاج نجيب محفوظ، وبدت فيما صدر عنه من اعترافات وآراء بالغة الصدق والجرأة والصراحة، حتى أن مريديه في الثغر كانوا وهم يودعونه، بعد انتهاء لقاء الأربعاء، يتعجلون عودته يوم السبت التالي لاستئناف مجلسه السكندري.
ميدل إيست أونلاين